أدبقصة

نُورٌ وَنَار

مُتْعَبًا تنُوءُ كَتِفَاهُ بِدَهْرٍ مِنَ عَذَابِ فِرَارِه اليَومِيِّ مِن مُلاحَقَةِ أَستَارِ العَتَمَةِ لَهُ، وَالصِّرَاعِ الليلِيِّ لِرَفْعِهَا عَن عَالِمِهِ الّذي يُحِبُّ، يَحتَضِنُهُ بِأَشِعَّتِهِ تَمحُو عَنْ قَلْبِهِ بَصْمَتَهَا السَّوْدَاءَ، وَتَلُفُّهُ بِوِشَاحِ الدِّفْءِ المَنْسُوجِ بمَغَازِلِ السَّنَاءِ، يَمُدُّهُ بِالأَمَانِ وَالأَمَلِ ، وَيَفْتَحُ أَمَامَهُ الأَبْوَابَ لِلْحَياةِ وَالعَمَلِ، وَآيِسًا مِنَ الحُلُمِ بِتَغْيِيرٍ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي كَوْنِهِ، يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ سِجْنِهِ فِي مِضْمَارِ السِّبَاقِ الَّذِي يَعِيشُ، فَرَّ النُّورُ بَاعِثًا فِي ظَلْمَاءِ يَأْسِهِ وَهَجًا، وَمُؤَمِّلًا مِن عَنَاءِ تِلْكَ المُطَارَدَةِ الأَزَلِيَّةِ فَرَجًا، مُعَاهِدًا نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يُطِلَّ عَلَى سَرَادِيبِ الخَوْفِ لِيَرويَ فِيهَا أَرْوَاحًا وَمُهَجًا، وَأَنْ يَزُورَ كُلَّ كَهْفٍ وَجُحْرٍ، وَأَنْ يَطَأَ كُلَّ سَفْحٍ وَغَوْرٍ لَا يُفْسِحُ لِلعَتَمَةِ مَيْدَانًا لِجَوْرٍ.
ابْتَهَجَ لِتِلْكَ الأَذْرُعِ الوَضَّاءَةِ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ بِمَا يَجْمَعُهُمَا، فَارتَمَى فِي حضنهَا حَالِمًا بِإِشْرَاقِهِمَا عَلَى الدُّنيَا مَعًا، يُدفِئانِ بِمَا لَدَيهِمَا الكَونَ، وَينِيرَانِ بِوَهَجِ قَلْبَيهِمَا دُرُوبَ الغَدِ، وَتعَاهَدَا عَلَى وَفَاءٍ يَحتَوِيهِمَا بِلا نِهَايَةٍ، وَعَطَاءِ لِكُلِّ مَنْ حَوْلَهُمَا بِلا غَايَةٍ، وَغَابَا فِي عِنَاقٍ خَالَهُ أَبَدِيًّا.

لَم تَستَوقِفْهُ، بَينَمَا كَانَ يَتَغَلْغَلُ فِي أَعْمَاقِهَا، أَصْوَاتُ استِغَاثَةِ مَنْ تَلتَهِمُ بِنَهَمٍ ظَنًا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ أَجِيجُهَا، وَلمَ يُخَوِّفْهُ مِنْهَا اصْطِرَاعُ أَلْسِنَتِهَا تَتَدَافَعُ وَتَئِزُّ يَكَادُ يَأْكُلُ بَعْضُهُا بَعْضًا، وَمَضَى يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ عَمّا يَتَطَايَرُ حَوْلَ أَلْسِنَتِهَا مِنْ ذَرَّاتِ السّخَامِ المُحَمَّلِ بِرَمَادِ الضَّحَايَا يُعْمِي العُيُونَ، وَيَصُمُّ أُذُنَيْهِ عَنْ أَنِينِ المُصْطَلِينَ بِلَهِيبِهَا مِمَّنْ أَغْوَتْهُمُ الأَلْسِنَةُ بِرَقْصَتِهَا الوَحْشِيَّةِ فَانْدَفَعُوا لِأَحْضَانِهَا كَمَا انْدَفَعَ، لَكِنَّهُ صُعِقَ بِزَفِيرِهَا لَا يَكُفُّ عَنْ “هَلْ مِنْ مَزِيدٍ” مُعْلِنًا تَحَفُّزًا لَا يَكِلُّ لِابْتِلَاعِ الكَونِ بِمَنْ فِيهِ، وانزَاحَت عَن عَينَيهِ عُصَابَةُ الوَهْمِ لحَظَةَ ارْتَطَمَ في القَاعِ بِرَمَادِ مَن قَضَى مِنَ الضَّحَايَا، وَتَذَكَّرَ أَذْرُعَهَا تُغوِية ليَأتِيَهِا وَمَا رَأَى فِي رِحلَتِهِ إِلَيْهَا وَفِيهَا، فَصَحا مُتَلَوِّيًا تَحتَ لَسعِ سِيَاطٍ أَعيَتهُ تَسْمِيَتُهَا، وَلَم يَهتَدِ لِوَصفٍ لَهَا غَيرَ قَسوَتِهَا، وبَاتَ أَسِيرَ قَلبِ النَّارِ.

حَاوَلَ إِقْنَاعَهَا أَنّهَا بذَلِكَ مُجَرّدُشكلٍ آخَرَ للظَّلامِ، وأَنَّها بالنُّورِ أَحَقُّ، وَأَنُهُ بِهَا أَولَى وَلَهَا أَبْقَى يَكفِيهَا بِطَاقَتِهِ وَحُبِّهِ وَانْصِهَارِهِ فِيهَا كُلَّ مَا عَدَاهُ؛ فَأَبَتْ واستَكبَرَتْ، وَاستَجْدَاهَا أَنْ تَكْتَفِيَ فَهَزئَتْ بِرَجَائِهِ وَعَافَتْ نِدَاءَهُ.
كَادَ يَفتَحُ شُرفَةَ الحَقِّ لِلرِّيحِ تَقتَلِعُهَا وَتُطَوِّحُ بِهَا بَعِيدًا نَحوَ وِدْيَانِ الانْتِقَامِ، فَمَنَعَهُ وَفَاؤُهُ لِرَفِيقَةٍ بَاتَتْ كِيَانَهُ، لا يَعرِفُ كَيفَ يُطِلُّ عَلَى الدُّنْيَا مِن غَيرِ عَينَيهَا، وَأَشفَقَ عَلَى قَلبِهِ أَنْ يَحُزَّهُ نَصلُ رَدِّ الغَدرِ بِالغَدرِ وَصَدِّ الشَرِّ بِالشَّرِّ، فَانْسَلَّ مِنهَا مُبتَعِدًا يُنَاجِيهَا بِضِيَائِهِ مُشفِقًا عَليهَا أَن عُودِي عَن غيِّكِ، فَإِنَّ أَذرُعَ ضِيائِكِ الّتِي تَصطَادُ لأَعمَاقِكِ الضَّحَايَا، تَحمِلُ لَكِ فِي النِّهَايَةِ البَردَ وَالظَّلامَ مَهمَا طَالَ الزَّمَنُ، وَسَيكُونُ تَحتَ رَمَادِهِم، إن لَم تَرتَدِعِي، رَدمُكِ.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى