أدبقصة

عَبرة

“عَبْـرة” تبحرُ إلى ضفةٍ أخرى، شابٌّ نحيل، أهازيج خافتة، رافعاتٌ تدور حول مبانٍ تحت الإنشاء، وسربٌ نوارس يلاحق الدخان.

هذا جلّ ما تبقّى، كم هو صعبٌ أن تلِجَ إلى الماضي من بوابة الذكريات، غريباً عليك يصبح ذلك الزمن وكأنك تتسكّع على رصيف مدينة ولا يعيرك أهلوها اهتمامهم.
“العَبرة” ” هي ذلك القارب الآليّ الخشبي الذي يقطع لسان البحر لينقل الركاب بين ضفّتيّ المدينة في رحلة لا تطول أكثر من عشرة دقائق، النوارس تعاقبت أجيالها لكنها بقيت هي هي، والشاب الذي يترنم ببعض الأهازيج كان أنا، لكنني فقدت النحولة.

كنتُ أخرج مبكراً للعمل والصبح لم يزل يتثاءب، ولأنني لم أكن أمتلك مركبة؛ كان لا مفرّ عندي من أن أستقلّ وسيلة مواصلات عامة للوصول إلى مقر عملي في الضفة الأخرى من المدينة، بوسعك أن تتجنب خوض البحر لتسلكَ طريقاً آخر لكن ذلك لا يتأتى لمن لا يمتلك مركبةً إلا باستئجار مركبة نقل ” تاكسي” ولأنني لم أكن لأحتملَ أجرتها فقدْ كنت أستقلّ أكثر من وسيلة نقل عام وأتنقلُ بين أكثر من محطة على قدميّ. لكن المحطة المفضلة بالنسبة لي كانت” العبرة “، اعتدتُ وأنا على متنها أن أتناولَ قطعتين من ” السمبوسة” المحضّرة بالطريقة الهندية وهي فطيرة محشوة بأصناف لا تحصى من الخضار، يقطر منها الزيت الذي تكرّرَ استعماله فتحول إلى لونٍ بنيّ، وكوباً من الشاي الساخن ، كانت أسرابُ النورس تسابقُ القارب الخشبي على مضمارٍ أزرق، تتحدى دخانه الأسود وهو يمخر عبابَ البحر ، كنت أضحك لها معجباً وأهزّ رأسي محيياً، لم أكن لأبالي بمن حولي وأنا على متن القارب المكشوف وما كنت لأضيع مشهداً يغسل القلب من عنت الغربة وضغط العمل ،

لم تكن ثمة هواتف ذكية في التسعينيات لتشغلك عن ما حولك؛ كنت أعيش تلك اللحظات بكل ما فيها، وما فيها كان أجمل ، جزءاً من المشهد كنت ، وعلى ضفّتي البحر صخب الناس وسعيهم خلف شؤون الحياة ، البحر يحملك بيسرٍ على صفحته ليسلمك إلى الصخب ، ولَكَ إن شئت أن تتأمل في أعماقه حيث صخبٌ من نوعٍ آخر ، ومن منا سيكون مثل البحر في سكونه الظاهر وثورته المكنونة في الأعماق؟!
كنتُ متى أنتهيتُ من التهام فطيرتيْ السمبوسة أرتشف الشاي الغنيّ بالسكر، وبين كل رشفة وأخرى أترنم ببعض الأهازيج، حتى يصل القارب للضفة الأخرى.

تتوقف المركبة، تترنح على صفحة الماء حتى يغادرها الركاب إلى سلّمٍ خرساني أما أنا فكنت أقفز قبل أن يستقر المركب واقفاً حتى تستوي قدماي على أولى درجات السلم قبل غيري، القارب الخشبي لم يزل يخوض البحر؛ ويطوي معه الأمواج، وأنا لم أزل أطوي السنين بعيداً عنه وأكثر قرباً من صخب الحياة.

أوقفت مركبتي قرب لسان البحر، مشيت بخطى خمسينيّ إلى العبرة، أخذت كوب الشاي خالياً من السكر، لم يعد بوسعي تناول السمبوسة الفائضة بالكوليسترول ،والعبرة تمخر البحر ، وطيور النورس تجاري أمواجه ، ذيل المركبة تلاحقه ألسنة الدخان الأسود وأنا ألاحق الذكريات ، نسيت الأهازيج التي كنت أترنم بها قبل سبعةٍ وعشرين عاماً لكنني لمحته جالساً في القارب أمامي.
هو شاب نحيل يحمل بين يديه كوباً من الشاي ويترنم بشيءٍ لم أسمعه جيدا، كنت أنظر إليه خلسة لأقرأ في قسمات وجهه صفحاتٍ طويتها رغماً عني ، بينما لا تزال الرافعات على الضفة الأخرى تدور وسط المباني تكاد تهامس بعضها.

اختفت ألسنة الدخان ، توقف القارب ، ترنح فوق صفحة الماء ، سارع الركاب في مغادرته بينما كنت أترنح مع اهتزازه فوق الماء ، مددت يديّ للشاب النحيل ليساعدني في الوصول إلى أولى درجات السلم الخرساني ، أنا الآن أبحث عن ” تاكسي” يعيدني إلى مركبتي !

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى