منذُ أيامٍ توفي والدهُ، وبحكمِ الوراثةِ أصبحَ الآن عمدةً لتلك القريةِ الهادئة ِالتي يعيشُ أهلُها البسطاءُ على الزراعة وتربية المواشي. ربما سيشبعُ هذا كثيراً من طموحٍ رافقه منذُ نعومةِ أظفارهِ وأضفى على طباعِه غروراً وجلافةً نفّرا منه الكثيرين. لكنّه لم يكدْ يتجاوزُ حزنَه على والده إلا وشَغلهُ ما هو أبعدُ من ذلك. تلك الحقيقةُ التي اجتهدَ في إخفائِها والتي باتتْ تؤرّقُه الآن وتقضُّ عليهِ المضاجع. إنه ومنذُ صباه بلا ظلّ، وفي أحسن الأحوال لا يمتدّ ظلُّه على الأرض أبعدَ من نصفِ ذراع!
ولا يزالُ يذكرُ تلك الحادثةِ الأليمةِ في صبا؛ عندما نكّلَ بقطّةِ الدارِ وسامَها ضرباً وإيذاءً حتى قضتْ أمام ناظريه. وبعدها فقدَ ظِلّه حتى جعلَ حضورَه بين أهلِ القرية منقطعاً، يكادُ يتوارى من القومِ إلا في مناسباتٍ يرافقُ فيها والدَهُ العمدة لا ينفكّ عنه. يسير بمحاذاته حتى يكادُ جسدهُ يلاصقُه.
ثمّةَ مودّةٍ نشأتْ بينهُ وبين الجواميس. غذّاها نفورُه من الناس. كان لا بدّ أن يمرَّ كلّ يومٍ على حظيرةِ الجواميس يتخذُ مجلساً بجوارِها. يطربُ لصوتها ويستنشقُ ملءَ صدرهِ منْ رائحةِ الحظيرةِ تلك قبلَ أنْ يغادر. وعلى ما فيه من بلادةٍ رافقتهُ منذُ نعومةِ أظفاره أدركَ أنّ الظلَّ إنما يصنعُه شعاعُ الشمسِ وجسدُه. خرجَ إلى الفلاةِ خِلسةً بعيداً عن أعينِ أهلِ القرية. انتصب أمامَ الشمسِ ساعةَ زوال. تجردَ منْ مُعظمِ ملابسه. رفعَ يديهِ نحوَ قرصِ الشمسِ محيياً. فرّج بين أصابعه. انحنى. وانحنى. دارَ دورتين، ثلاث، أربع. رقصَ كجاريةٍ أمامَ سُلطانٍ في ساعةِ نزق. رفعَ هامته ثمّ نظرَ من خلفهِ ومن أمامه. لم يجد ظلاً. صرخ، ثمّ قبعَ يصطلي المرارةَ وحرّ صعيدِ الفلاة حتى لملمتِ الشمسُ أشعّتها واستعدّت للمغيبِ غير آبهة. عندها أخذَ قبضةً من التراب وقذفها في وجه الشمس. ثمّ أتبعها بنفخةٍ منْ فيه، وصرخَ ساخطا: أين ظلّي؟!
– أليسَ الظلُّ قطعةً من الليل؟ حدّثَ نفسه. إذاً سأرسمُ ظلّي بنفسي! صرخَ كالمهووس. ارتمى لاهثاً على التراب. وبيدين مرتجفتين يرافقهُما صراخٌ هستيريّ رافقَ ثورةَ غبار شرعَ يرسمُ ظلّه. خطَّ خطوطاً على الأرضِ ثم ارتمى فوقَ ما رسمهُ واحتضَنه متشبّثاً. لا، لا لن أبرحَ الأرضَ حتى آخذَ ظلّي معي.
مكثَ ليلتَهُ في العراء. ريحٌ تصفّرُ في أذنيه. غبارُها يصفعُ جلدَه المرتعشَ برداً وخوفاً. ارتدى رأسُه فروةً من التراب. لا يزال متشبثاً بالأرض محتضناً ظلاله. عادَ إليه قرصُ الشّمس مع أوّلِ بزوغ الفجر أصفرَ مكفهرّا. فتحَ عينيه على لا شيءٍ إلا خطوطٍ غائرةٍ في التراب. يا لهولِ ما رآه! لم تكنْ تلك الخطوطُ إلا رسماً لتلك القطةِ اللعينةِ التي قتلها من قبل. أحسّ وكأنّ مخالبها تنشبُ في ضلوعه. ضربَ الأرض. أثارَ الترابَ منْ حولِه بجُنون، أرسلَ صرخةً من حقد ثم عادَ أدراجه الى قريته.
والآن وقدْ أصبحَ عُمدةَ القرية، كيفَ له أنْ يسودَ القومَ بلا ظلّ. أَلم يكنْ من دُعاء شيخِ القرية صاحبِ العمامة الطويلة لأبيه أن يديمَ الناسَ تحتَ ظلّه؟ فكيفَ يستظلُّ الناسُ به والحالةُ هذه؟ فكّر وقدّر. قادهُ قلقُه إلى شيخِ القريةِ صاحبِ العمامةِ الناصعة.
– مولانا. أريدُ ظلاً. وكيفَ لي أنْ أسودَ الناسَ بلا ظل؟
– أدارَ الشيخُ رأسَهُ دورتين، ثم أرخاها كمن يأخذ غفوة، بعد ذاك رفعها وجحظ َبعينيه كأنما اهتدى لضالّة وهتف: بل أنتَ رجلٌ مبارك وهذه أولُ كراماتك!
– أيّةُ كرامةٍ هذه أيها الدّجال؟! قلتُ لكَ أريدُ ظلاً!
أطرقَ صاحبُ العَمامة. حطّتْ على رأسِه طيورُ التأمّل. ارتفعَ حاجبهُ الأيمنُ لتبرق عينهُ على حظيرةِ الجواميس على مَقربة ثم لاذَ بالصمتِ كأنّما ينتظر شيئاً.
– حسنا، سأعطيكَ أفضلَ ما عندي من الجواميس. لكن قل لي ما الذي أنتَ صانعُه؟
رسمَ ابتسامةً صفراء. أخرجَ صوتاً حاداً كفحيحِ الأفعى. شدَّ حاجبيهِ وصنعَ لوحةً من تقاسيم متنافرةٍ على جبينه.
– سأصنعُ لك ظلاً من البشر؛ ظلاًّ يرافقكَ في نهارِك و في ليلك.
جمعَ صاحبُ العمامةِ القومَ. قامَ بينهم خطيباً. اصطنعَ ابتسامةً على وجههِ. ضمَّ يدهُ إلى فيه. قبضَ من حلوِ الكلام قبضة ً. ثم قذفها إليهم. هتفَ بهم: هذا وليّكُم. عيشوا في ظلّه. بلْ كونوا ظلاًّ لهُ تفلحوا! هتفوا من بعده سمعنا وأطعنا.
منذُ ذلكَ الحين نمى له ظلّ. كانوا يتبعونهُ أينما حلّ وارتحل. وصارتْ له حاشيةٌ. تكبرُ شيئاً فشيئاً. إذا عطسَ هتفوا له: يرحمك الله. يبيتون بقربه. وتراهمْ عن كثبٍ حتى في قضاءِ حاجته. فمنْ حَظيَ بقربه كمنْ نال الرّضا. ومن تنكبَ عنْ دربِه شعر أنّه في سخط. كان إذا لاحَ بطرفِ عباءته ذاتَ اليمينِ أو ذات الشمال مالوا معها.
جمعٌ آخر لم يرُقْ لهم أنْ يكونوا في سوادِ الظلّ. أولئكَ كانوا يتنفّسون الضياءَ من وهجِ الأصيل. ويملؤونَ صدورَهم بنسائمِ الفجر حين تُجبلُ بأوّلِ شُعاعٍ. حقدَ عليهم العمدةُ الجديدُ حِقدَهُ على الشمس. أزاحَ مجرى الماءِ عنْ أراضيهم. لكنهم حفروا في عمقِ الأرض عن ماءٍ زُلالٍ فارتووا، ورووا منْ حولهم.
لم يطلِ المقامُ بصاحبِ الظلّ. داهمته الحمّى. استوطنتهُ حيناً ثمّ رحلت بعد أن تركتْ جسداً ارتاح من روحٍ لفظتها آخر أنفاسه. حلّقت روحهُ قليلاً ثم ذهبتْ تحومُ حولَ الحظيرة.
إلى جانب القبرِ جلسَ صاحبُ العمامة. يحومُ برأسهِ كمنْ ينشدُ ضالّته. الشمسُ ترسلُ وهجَها ليعانقَ تراباً حرّكتهُ ريحٌ خفيفةٌ حتى كأنهُ يتقلّبُ على مقلاة. خفّتِ الأقدامُ منْ حولِ صاحبِ العمامة. تفرّقَ الناسُ. قطةٌ عن كثبٍ تنبشُ في الترابِ وتثيرُ الغبارَ في عمامته الناصعة. بينما أصحابُ الضياء يسيرون بتؤدة، يمضون يحوقلون ويسترجعون.
تلفتَ صاحبُ العمامة مِنْ حولِه، كانَ وحيداً فلم يبقَ أحد. نهضَ بتثاقل ومشى. انتبه أنه يسير بلا ظلّ. ألقى إلى القبر نظرةً أخيرةً ثم مضى.