فلسفة وأخلاق

الغباء “لافكر” يفكر

“كم كنت غبيا حينما فعلت كذا وكذا”
”كان غباء مني فعل ذلك، لكن بمجرد ما اكتشفت خطئي وغبائي قررت أن أحتاط أكثر كي لا أعيد الكرة”
”ها أنا ذا أكرر نفس الأخطاء. يا لي من غبي. وكأنني لم أتعلم مما مضى”

من منا لم يحصل له من المواقف ما جعله يتهم نفسه بالغباء، ويجلد ذاته على خطأ لم تترك له تسارع الأحداث تداركه قبل أن يقع، أو كرر نفس الخطأ وهو أكثر ما يكون يقينا بأنه أبدا لن يسقط في الفخ؟

فهل المخطئ المعترف المحاول تغيير أساليب تعامله مع الأخطاء؛ يفترض أن يطلق عليه صفة غبي أو بليد أو معتوه أو أبله؟ هل الغباء والبلادة والبلاهة صفات ترادف الخطأ غير المقصود، والزلة العابرة، والهفوة غير المتكلفة، أم أن معانيها تتجاوز العثرة إلى الإصرار عليها وإخراجها من مفهوم الزلقة إلى أبعد من مجرد سقوط غير محسوب، واعتبارها عين الصواب والحكمة؟

مهلا، فلعل السؤال الذي يجب أن يفرض نفسه قبل الرد عن ذا وذاك؛ ما الذي يجعلنا نقارب مفهوم البلادة ونحن في إطار الحديث عن الأخلاق والقيم؟ هل هو إقحام لهذا الموضوع في فلسفة الأخلاق؟ أم أنه من صلبها باعتبار أن “كل سلوك قابل لأن يكون محط الحكم عليه بالخير أو الشر، أو بالصلاح والفساد، يعد خلقا من الأخلاق”؟

خلافا لما قد يُعتقد، فإن البلادة والبلاهة التي مثلت ومازالت المادة الأولية للأمثال وللفكاهة والأدب والسينما، حتى ألف في البلهاء والحمقى من ألف؛ في أخبارهم وأحوالهم ومواقفهم، وأصل لصفاتهم وطبائعهم= تندرج ضمن الموضوعات الفلسفية والأخلاقية، وليس مجرد حكم قيمة عابر على حالات تتواطؤ صفاتها مع مفهوم الغباء. بل إنها أصبحت في عصر الحداثة بعدا ملازما للوجود البشري؛ قد أفرزها التطور السريع الذي أصبحنا نشهده، وثبتت سماتُها جذورَها، وكرستها أشكالها المتنوعة التي “تتطور” مع التطور، وتنتشر بامتداد التقنيات الحديثة ووسائل التواصل؛ مرتع خصوبتها، حيث الغباء الجمعي، و”البوز”، وحصد إشارات الإعجاب، والتسويق للتفاهات وللأفكار الجاهزة ول”اللافكر” .

“إن دور المثقف الحقيقي … ليس فقط بأن ينتقد الحداثة، ويفضح سراب أجنداتها، وإنما أن يكون متوقدا يقظا متوجسا من غزو “الكيتش” جمالية الفن واختراق أخلاقه وسلوكياته اليومية … وأن يؤسس مشروعه التخليقي على كشف ما يعيق التقدم الفكري من خلال طرح الأسئلة وخلق القطيعة مع ما من شأنه أن يكرس التخلف والغباء والتصرفات اللاأخلاقية اللاإنسانية” وصال تقة

فما الغباء؟ وما أنواعه؟ ومتى يمكن الحكم على أحدهم بهذا الوصف؟ وما تبعاته وتأثيره على المنظومة الأخلاقية؟

إن كان الخطأ توظيفا للعقل في غير محله، وتتبعا لآليات ومناهج لا تؤدي إلى الغاية المنشودة، فإنه من الخطأ اعتبار الخطأ غباء، مادام يكفي معه الاعتراف مبدئيا بمواطن الزلل، وإعادة توجيه العقل بتصحيح المنهج، وتغيير الآليات، وإقامة نقد لبيان انزلاقه كي يستعيد البوصلة. في حين أن الغباء؛ على عكسه؛ لا تصححه المعرفة، ولا يجدي معه إلزام بخط منهجي لتوجيه العقل نحو التدارك والتصحيح. فهو ليس نقصا في المعرفة قد يصححه التعلم، بل إن أية محاولة للدفع بالغباء كي يتحول إلى تفكير ممنهج وأن يتخلص من سذاجته؛ ما هو إلا تكريس لرد فعله المقاوم. فمن سماته البارزة ؛ أنه صفة تنتهج المقاومة وعدم الاعتراف. لذلك فالغبي لا يشك في سلامته العقلية، ولا يعترف أصلا بغبائه، ويرى دائما أن “الآخر” هو الغبي. هو “لافكر” يقدم نفسه على أنه مفكر، بل على أنه صانع الفكر ومرجعية المفكرين. وهو في صورة من صوره؛ قدرة خارقة على تقمص النجاح وعلى تمثيل التفوق، وعلى الثقة بالنفس وتقدير الذات، والإيمان ب”المواهب” والتصديق ب”القدرات”. تلك المواهب التي يصنعها الوهم، وتلك القدرات التي يغذيها التشبه والتصفيق. لذلك فإن أية محاولة لجعله يرعوي؛ تجعله أكثر تصلبا لمواقفه الغبية، مما يشجعه على أن يعطي نفسه أحقيات خاصة في الحياة الاجتماعية، مادام يستشعر مناعة ضد النقد واللوم والعتاب. منطلقا في رفض النقد حينا من نظرية المؤامرة، وأحيانا من الحسد وغيرة الأقران، وأحايين أخرى من الإحساس بالتفرد وبالإتيان بما لم يأت به من قبله.

فالغبي الأبله في مجال الأدب إن كان كاتبا؛ “كيتش” يجتر الأفكار، ويسوق للنمطية وللتسطيح، ويركز على العاطفة وعلى الدرس الأخلاقي والموعظة، دون قدرة على طرح ما يزعج القارئ ويستفزه ويجعله يتأمل ويحلل ويستنبط ويتخذ موقفا. عالم قصصه  مثالي نقي طاهر بريء، حيث البياض ينتصر على السواد في الأخير، وحيث الغلبة دائما للخير. يحكي لقارئه ما يود سماعه كي يحظى برضاه عنه وتلقى سلعته الرواج والشهرة، ويمنع عنه الأسئلة لأن الجواب عنها مطروح مسبقا. وإن كان قارئا، فماتزيده قراءاته إلا ضلوعا في البلادة والبلاهة.

وفي المجال العلمي، يخرج على الناس ب”اختراعاته” الساذجة، وباكتشافاته البلهاء، فيسوق للأجهزة الخداعة، وللقوانين المضحكة، ولا يجد حرجا في أن يقدم نفسه على أنه منقذ الإنسانية من ضياعها وألمها. يلمع مرآته الإعلام الذي يضخم صورته، ويذيع خزعبلاته ويستقبل غباءه استقبال الأشاوس العائدين بالنصر من ساحات القتال.

بل لم يسلم من ذلك حتى حقل التراث : فإن كان “الكيتش”محقق مخطوطات، فإنه لا يجد غضاضة في إضافة  نقطة  فوق حرف أو تحته، أو أن يتبعه بألف، أو حتى أن يغير كلمة أو مجموعة كلمات حسب ما يفتيه عليه فهمه و”ذوقه”. وإن كان مشتغلا بالمادة الفقهية، فلن يكلفه الأمر أكثر من أن يتحدث في غير فنه فيأتي بالغرائب، فيفتي وفق زاوية رؤيته،  ويستنبط تبعا لمحدودية فكره، ويعمم في موضع تخصيص، ويخصص في موضع تعميم، ويطلق أحكامه يمنة ويسرة مشغبا على المجتهدين، مجرحا من لا يوافق نهجه. وإن رام شهرة سهلة وتصفيقا من المنبهرين بالتفاهات، وجد في التطاول على الأئمة الأعلام، وفي إعادة استنطاق النص الديني مرتعه الخصب ليبرز قدراته في صناعة الغباء والتسويق له.

وإن كان مرمم آثار فلا شيء سيمنعه من أن يعيد تشكيل القطع بما توفر لديه من مواد، بل لا يزعجه ألبتة أن يغير ويشكل وأن يحتكم إلى الحاجة كي يخترع ما يحقق به ترميمه. فيكون الغباء  في هذه الصور؛ ليس غيابا للحكمة، وإنما إفراط فيها، مصدقا لتلك المقولة المغربية المشهورة : قيل له:- هل عندك علم؟ – فقال: أعرف كيف أزيد فيه.

وهو في صورته المنقطعة عن الفن وعن العلم، كائن يقتات على فجائع الناس، ويستغل المواقف لتعييرهم بها أو لاحتقارهم والتشويش عليهم. لا يردعه ألم ولا فاجعة عن الشماتة، ويهتبل الفرص كي يحلل المآلات ويربطها بكل ما من شأنه أن يلخص نظرته القاصرة وفكره السطحي المتخشب، وأحكامه الجاهزة .

هذه قطرة من بحر يعج بصور الأغبياء البلهاء، فكيف نقاوم الغباء، ونواجه”الكيتش” في كل صوره وأحواله باعتباره؛ ليس قضية فنية فحسب ، وإنما قضية أخلاقية وقيمية، ونحن نعلم مسبقا أن أية مواجهة له أومحاولة لتصويبه لا تفعل أكثر من خلق حالة تكلس وتصلب وإصرار على البلاهة والغباء؟

إن دور المثقف الحقيقي حيال هذا لا يقل عن دور الفيلسوف في إنشاء الاستدلالات الجديدة في النظر، والاستشكالات في القضايا المستجدة التي ما تفتأ الحداثة تفرزها. فهو مطالب، الآن أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط بأن ينتقد الحداثة، ويفضح سراب أجنداتها، وإنما أن يكون متوقدا يقظا متوجسا من غزو “الكيتش” جمالية الفن واختراق أخلاقه وسلوكياته اليومية، ذا عقل واع منفتح على القيم الكونية في ظل سهولة التسويق واتساع الاستهلاك، وأن يؤسس مشروعه التخليقي على كشف ما يعيق التقدم الفكري من خلال طرح الأسئلة وخلق القطيعة مع ما من شأنه أن يكرس التخلف والغباء والتصرفات اللاأخلاقية اللاإنسانية. وخلق فكر مزعج مستفز ينجب الأسئلة، ويرفض النمطية والاستهلاك، ويشوش على ترف البلاهة وفخفختها المزورة وتعاليها المكذوب.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى