قصة

ثم ابتسمت..

اليوم، فتحت عيني وأنا أبتسم بعد نومة طويلة لم أحظ بها من مدة، من مدة بعيدة سحيقة..

فتحت عيني في بطء شديد كعيني وليد يعميهما الضوء، فيظل يقاوم بنصف عين إلى أن تستأنس جفونه بهذا الهطول المفاجئ لزخات النور. نظرت إلى النافذة أمامي وانتشيت، ابتسمت لي الشمس فرددت عليها بابتسامة دوشينية تدل بحق على أنني كنت سعيدًا، سعيدًا جدًّا هذا الصباح حد نبض لونها في صدري. لا أذكر منذ متى لم أبتسم، لكنني حقًّا ومن غير مبالغة اكتشفت أن عضلات وجهي مازالت تستطيع التقلص والتمدد لتسفر عن بسمة، وذاك زاد من سعادتي..

تمددت كشرنقة تنكث غزلها لتنسج جناحين تعبر بهما الفضاء الرحب تستكشف ما حولها، ورأيت شمس أبريل المحملة بالأمنيات، رأيتها ولم تكن متدثرة بغيم، قررت إثرها أن ألبس معطفي وقبعتي السوداء ونظارتي الشمسية وأن أطلق ساقي للنسيم، ألثم عبق الربيع تمامًا كتلك الفراشة الخارجة توًّا من رحلة التشرنق..

كنت قد تحولت من مدة بعيدة إلى بائع متجول يبيع الأحلام، حتى إذا ما رُغت إلى نفسي، وجدتني وحيدًا كئيبًا عاريًا كما نوماتي من حلم جميل يروي عطش الأيام. كل شيء حولي كان باهتًا مكرورًا لا دهشة فيه، وغرقت كدفق الأيام في الرتابة والتكرار..

أرجع كل يوم محملا بأرغفة الخبز وبلائحة الطلبات التي تمليها علي «سوسن »، أملأ جيوبي من السكاكر واللبان والشوكولا التي يحبها أطفالي، وأنا على يقين بأنهم سينتظرونها دوني، وأنهم كما كل مرة سيستلمونها في

فرح وحبور دون أن يضطروا إلى كلمة شكر أو لقبلة امتنان. أبدأ مسائي كما كل يوم بمراجعة الدروس لهم، أصلح الصنابير المعطلة، وأغير المصابيح المتلفة، وأعدل قارورة الغاز وكل ما يحتاج إلى تقويم، ثم أنكفئ على نفسي في مكتبي أنتظر الصباح كي أبدأ يومًا جديدًا تمامًا كالذي سلف، وطيفي الرابض هنا لا يشعل فضول سوسن ولا يستهويها الاقتراب منه، كأنني كتابة سومرية نقشت على جدران كهف، أو رموز فرعونية في أقباء الأهرام، أو لغز محير من بلاد أليس العجيبة.. أخالها أحيانًا تخشى مني العدوى، أو أنني مسخ مشوه يفزعها، أنظر إلى نفسي في المرآة من حين لحين فلا أرى شيئًا غريبًا فيّ ولا شيئًا يدعو للفزع، صحيح أن شعري بدأ يشتعل شيبًا؛ لكن الشيب لم يكن يومًا ليفزع، ثم أنا مازلت في منتصف عقدي الثالث، والكثير ممن حولي ممن هم في سني لم يتزوجوا بعد. قسمات وجهي الكالحة الواجمة، وعضلاتي المفتولة القوية، وقامتي الطويلة بمنكبين عريضين؛ قد تكون السبب في جعل من يراني يظن أنني جاوزت الأربعين بأعوام، ولربما هو حزمي، ولربما هو حزني، ولربما هذه الابتسامة التي غادرت وجهي..

لا شيء فيّ يفزع أو يُنفِّر، لكنها لم تكن تراني، كانت ترى شيئًا آخر.. رصيدي بالبنك وحافظة نقودي..

كمّ الاستشارات أنتظرها تمامًا كما تنتظرني، لربما هي الشيء الوحيد الذي أصبح يزرع فيَّ الحياة ويجعلني أمارس طقوس انتظار المجهول، أوزع عبرها بسمة لثغر كئيب، وحلا لمشكلة قد أرهقت ملدوغًا من عقارب الحياة التي ما تفتأ تنفث سمها على عابري دروبها، أصلح بين الأزواج، وأعلمهم مبادئ الحب والسماحة والانسجام، أعيد عجلتهم الحائدة للسكة، أمسح دمعة زوجة تنكر لها زوجها بعد طول عشرة، وأواسي تلك التي سلمها للوحدة أو لأهله يشاركونه فيها، أخطط لها كيف تستعيد مملكة لا حاكم فيها سوى هو وهي، وعرش لهما أصنعه أعطره لهما بالأحلام، وأربت على كتف مهموم قد جعلت منه زوجته – تمامًا كما فُعل بي – مورد مال يحاول أن يشبع نهمها الذي لا ينتهي.. وألوذ إليّ بعد كل تلك الرحلة، أصارع دمعة قد علموني يومًا أنها لا تليق بالرجال، أتدحرج داخلي ككبة خيط وأتكوم دون الأنظار، أنظر حولي في توجس، وأذرفها في خلسة ثم أستكين سويعة قبيل الفجر أتهيأ ليوم توأم للذي مضى..

رغيف خبز أنا وبضع سكاكر، وبطاقة بنكية، وقطعة أثاث في زاوية بيتي وأسورة تزين معصم زوجتي وبعض أحلام لها لا تنتهي..
هذه هي الحقيقة التي يجب ألا أغمض عنها عيني..

يكفي ألا يروا فيك سوى قطعة المال التي تجلب لهم السعادة لتتحول في لحظة إلى صنم مشوه، إلى نبع متدفق على الدوام يجب ألا ينضب، إلى لوحة زيتية حكم عليها أن تبقى مصلوبة على الجدار تستقبل نظرات الزائرين وتدخل ببهجة ألوانها البهجةَ على الناظرين، وتبقى هي هكذا كل يوم تحت الشمس وتحت الظل وتحت الضوء وتحت الظلام مصلوبة لا تفعل شيئًا سوى إغراق الوافدين في الدهشة..

عيناك قرصا عملة، ووجهك لا يعدو أن يكون قطعة نقدية عملاقة، صماء صلدة تصلصل، تبرق في وجوههم فيبتسمون، وإذا ما خَفَت وهجها يومًا؛ كان لك منهم الخفوت..

لغة الحوار بينك وبينهم تتلخص في فعل رباعي لا يمكن بحال أن يعبر عن رغبتك أنت، يبدأ بهمز المتكلم وينتهي بدال، وبينهما راء وياء، يختم على فيك ومعه على ما تبقى في جيبك من أحلامك لينعش أحلامهم وأمنياتهم السرمدية المتوغلة في لجج الشراهة والرغبة وحب الامتلاك..

تمر قرب المتاجر المخصصة للرجال؛ فلا تستهويك ربطة عنق ولا يغريك دبوس ولا ساعة معصم ولا بذلة رياضية أنيقة تقتنيها لعطلة الأحد، تريد فقط أن تشتاق عيناك لشيء معلق على واجهة المحل، تناغيه وتناجيه، وتجعل من راتبك جزءًا مخصصًا له، فتغدو عينك خامصة وتعود ظمآى..

لا شيء يغريك، ولا تعنيك في شيء تلك المتاجر..
لم تعد تعنيك في شيء..

وحتى رفاقك في العمل، وحتى أولئك العائدون توًّا من رحلة سماها المخدوعون ببريق الحياة بشهر العسل، يصبحون في غضون شهور قد لا تعد على رؤوس اليد الواحدة صورة مطابقة لك، فلا ترى بصيص أمل في عيني ناج من دوامة، ولا خارجًا عن منظومة صنعنها وأُرغِمنا على مضض على الغرق فيها، منصهرين تحت آلة الزمن، قد سحقتنا عبارات الطلب وأفعال الأمر وكلمات التوق والشوق والتشوف لكل معروض جديد ولكل بضاعة حديثة، وجوههم عملات أيضًا تمامًا كما جيوبهم، هذا عملة محلية والآخر فلس والآخر صاغ والذي بقربه درهم ومن يليه بوجهه المسطح ورتبته ورقة مالية قديمة مكمشة عاتت فيها أعاصير السنين..

أمس، كان يومي طويلا بين أروقة ملابس الأولاد للعيد القادم خلال أيام ومتاجر البضائع ومحلات العطور والأحذية النسائية، تمنيت في لحظة أن أتحرر من وجهي ومن عيني اللذين يتقنان البحث عن كل شيء لهم، وليس لي من بحثهما نصيب، حتى إذا ما جن المساء، عدت وقد حملوا كل ما يشتهون وزدتهم مني الهدايا، واستلقيت فوق سريري خاوي اليدين من بدلة العيد، تمنيت حينها لو فتحت عيني على هدية من سوسن خبأتها لي للمناسبة، تراءى لي وجهها وقد أشرق حينما حصلت على خاتم الزمرد الذي كانت تشتهيه وهي تعلم أن الخواتم ما جعلت لعيد تجتمع فيه كلفة التموين مع كساء الأولاد وكبش الأضحية، لكن شيئًا من ذاك لم تكن تفهمه، كنت على يقين أنني كنت أعرض نفسي لأن أمضي ليلة العيد ببيت والديها أراضيها كي لا يمضي الأولاد العيد كئيبًا، كما كنت على يقين أنها لم تكن لترضى إلا بذات الخاتم أطيب به خاطرها وأغريها كي تعود..

اختصرت كل ذاك العناء في شيك وقعته باسم الصائغ وشريت النكد بجرة قلم أزرق. تمنيت أن توقفني أمام واجهة «تمبرلاند » أو «بيير كاردان »أو «لاكوست » أو «بولو » تحثني على اقتناء شيء جديد، تشجعني وتفتح شهيتي للشراء، لم تكن لتدفع من جيبها هي شيئًا، لكنها لم تفعل..

غرست وجهي في وسادتي ودمعة مشاكسة تنكزني، وسبحت أجلد نفسي على ما ألت إليه، وفي لحظة تحول وجهي الرصاصي من قطعة نقدية صلدة إلى قطعة لحم، تحسست خدي وعيني وجبهتي، فإذا منابت الشعر تشك أصابعي وإذا بقطعة اللحم المغروسة تحت المعدن تند، تعاند وتخرج من بين شقوق وجهي كشتلة سقتها الدمعة فنبتت كما تنبت الطحالب بين نتوء الصخر العنيد، تلألأت دمعة أخرى، وقررت في رمشة عين، تمامًا كما ذلك القرار الحاسم لجنين لم يراع الليل فقرر فجأة أن يرفس بطن أمه بقوة، وأن ينسحب من بين شقوق الظلام إلى رحابة الوجود، قررت؛ وأنا بكامل عقلي ووجداني منذ تلك اللحظة؛ أن أعتنق اللذة، وأن أمنح نفسي حظًّا من راتبي ومن وقتي ومن رحابة الكون حولي، قررت أن تستمد الشمس فجر هذا الأحد وهجها من إشراقتي، ووعدتها أن أبتسم لها وأن أخصص صباح هذا اليوم لي، لي وحدي أطوف بين متاجر الرجال وأقتني بدلة وحذاء رياضيًّا لصباحات السبت والأحد يومي عطلتي الأسبوعية، وأن أنتزع وقتًا لأقتني ساعة يد رياضية جميلة تليق بي وبسني، وأن أنتقي ربطات العنق التي ما اقتنيت منها مذ تحولت قسمات وجهي لخطوط عملة نقدية..

وقررت منذ اليوم أن أصبح صارمًا وأن أتدرب على الرفض والشجب،

وأن أمرن حبالي الصوتية على تلك الكلمة البسيطة المكونة من حرفين، لكنها تصنع الحدود وتحسم الأمور وتكون الفيصل في الكثير من القرارات..

قررت أن أمتنع عما لا أريده وأن أقول «لا » ملء شدقي أمد بها صوتي في حزم، أقمع بها التطلعات الجشعة وأمانيها العنيدة..
وقررت منذ اليوم أن أبتسم.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى