فلسفة وأخلاق

هل تدعو الفلسفة إلى الإلحاد؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

وقف علماء الشريعة موقفا متشددا من الفلسفة، وذلك في محطات مختلفة تتباين مناظير نقدها، ومراتبُ تشددها في الحكم، وإن تساوت في إنكار الفلسفة ورفضها.

فإلى جانب النهي المجرد عن تعلم الفلسفة (المسماة أيضا “علوم الأوائل”) في كلام الفقهاء، وجمعها في سلة واحدة مع السحر والشعوذة وما أشبههما من العلوم المحرمة (2)، نجد في القضية بيانا أوضح وأكثر تفصيلا في محطتين مهمتين في تاريخ الفقه الإسلامي، هما محطتا أبي حامد غزالي الذي اشتهر عنه تكفير الفلاسفة في ثلاث مسائل، وتبديعهم في سبع عشرة مسألة؛ وشيخِ الإسلام ابن تيمية الذي أطال في نقد الفلسفة وتكفير بعض مقالاتها وأربابها، مع إقراره بصحة بعض ما وافقوا فيه الحق، وإن كان منهجهم في الوصول إليه باطلا.

ولست هنا بصدد بحث هذه القضية، ولكن يهمني أن أقرر أن علماء الشريعة حين يرفضون الفلسفة ويتوجسون منها، فإن كلامهم منصبّ على الفلسفة اليونانية، فهي المعروفة عندهم بعد ترجمتها، ثم تبنيها بالشرح والتعليق ممن يسمَّون الفلاسفة الإسلاميين.

ونحن حين ندرس الفلسفة الإغريقية ونرى ما تتضمنه من الأصول الإلحادية –مع مكوّنٍ إيماني لا يمكن إنكاره (3)– لا نملك إلا أن نوافق علماءَ الملة حين احتاطوا لأديان الناس، فرفعوا النكير على “الحكمة” اليونانية. ولكن لنا أن نسأل –بعد أن تطورت الفلسفة كثيرا، وخرجت إلى حد كبير من عباءة الإغريق– عن مدى صحة هذه النظرة اليوم.

فهل تخلصت الفلسفة الحديثة من الأصول الإلحادية والحمولة اللادينية، فلم يعد من المقبول استدعاء أقوال أئمتنا المتقدمين الخاصة بالفلسفة اليونانية؟

هذا موضع تدبر ونقاش.

يتبنى المدافعون عن الفلسفة في هذا السياق أطروحتين أساسيتين:

الأولى: أن “ظهور الفكر الإلحادي المناهض للدين كان في لحظات تراجع الفلسفة وانحطاطها، لا لحظات تطورها وازدهارها”(4). وإذن فالفلسفة ليست مسؤولة عن تنامي الإلحاد المناهض للدين، بل ربما يكون تراجعها هو المسؤول عن ذلك! وعلى الرغم من قوة هذه الأطروحة في ذاتها، فإنها تثير مجموعة من التساؤلات والإيرادات:

ـ الإيراد الأول: أن الملاحظ من الاستقراء الشمولي للتاريخ أن مرحلة الازدهار الكامل للأديان –خاصة النصرانية والإسلام– واستئثارها بتأطير الأفراد وتوجيه المجتمعات، هي المرحلة الممتدة من ميلاد المسيح تقريبا إلى عصر النهضة، وهي المرحلة التي ضُيق فيها على الفلسفة، حتى اضطرت إلى أن تغيّر إهابها، وتبدو –في بعض تشكلاتِها– في قالب “مقبول دينيا” (علم الكلام في العالم الإسلامي، والفلسفة الاسكولائية في العالم النصراني).

ـ والإيراد الثاني: أن المراحل التي قيل إنها جمعت بين ازدهار الفلسفة ونمو الإيمان (زمن سقراط وأفلاطون وأرسطو عند الإغريق، والقرن السابع عشر في العصر الحديث)، هي مراحل تمت فيها زعزعة أصول الدين من طرف فلاسفة “مؤمنين” – سواء أكان إيمانهم حقيقيا أو مدّعى لأجل تجنب بطش المؤسسات الحاكمة. فهذه المراحل “الإيمانية” هي مراحل توطئة وتمهيد لما بعدها من أزمنة اللادينية الخالصة. فلب الإشكال هو وجود سيرورة تاريخية، يتدرج بها كل من الدين والفلسفة لإلغاء الآخر وإبطاله، بغض النظر عن وجود مراحل زمنية أمكن فيها التعايش بينهما.

ـ والإيراد الثالث: أن مرحلة القرن 18 اللتي وُضعت مثالا على اجتماع ضعف المنتج الفلسفي من جهة وشراسة العداوة للدين من جهة أخرى، لا تصلح لأن تكون قاعدة عامة للترابط بين هاتين الظاهرتين، بدليل ضعف الفلسفة في مراحل قوة الدين كما سبق بيانه.

كما أن من الغلط في هذا المقام إغفال أمر مهم يعدّ من أعظم مميزات القرن 18، وكان له تأثير كبير على العداوة بين الفلسفة والدين في هذا القرن، أعني: الظرف السياسي المتأجج، الذي فرض صراعا بين الشعوب المقهورة والظلمة المتسترين بالحق الإلهي الديني، واصطفاف ممثل الدين –أي: الكنيسة– في المكان الغلط، إلى جانب الظلم، وفي مواجهة رغبات الانعتاق والتحرر.

أما من الناحية النظرية، فلا يمتاز القرن 18 بدعوة إلحادية زائدة على ما سبقه وما تلاه من المراحل الزمنية، لولا الصراع العملي بين الفكر “الحر” وممثلي “الدين المنغلق”، وما يقتضيه هذا الصراع من إبراز للعداوات وتأجيج لها.

 أما الأطروحة الثانية للمدافعين عن الفلسفة في سياق علاقتها بالدين والإلحاد، فمبنية على أن كثيرا من الفلاسفة المرموقين كانوا “مؤمنين” –بالمعنى العام للكلمة-، وإذن ليس من المحال إنتاج فكر “متدين” و”لا إلحادي” انطلاقا من داخل المنظومة الفلسفية نفسها.

والحق أننا لن نتوقف كثيرا عند أسباب تصريح هؤلاء الفلاسفة بالإيمان، ولن نهتم إذن لكون إيمانهم حقيقيا أو مفروضا سبَّبه طغيان الكنيسة. ولكن الذي يهمنا الإشارة إليه –دون تفصيل– هو أن هؤلاء الفلاسفة “المؤمنين”، وضعوا أسس الإلحاد و”علمنة الفكر”، بل عملوا على تحطيم الدين من الداخل، بدءا بميكيافيلي، ومرورا بمونتيني وديكارت، إلى أن وصل المشعل إلى الفلاسفة الماديين لقرن التنوير (لامتري، ديدرو، دولباخ ..)!

لكن لتفصيل ذلك مقام آخر، سيأتي لاحقا إن شاء الله..

لم تتخلص الفلسفة إذن من حمولتها المناهضة للدين –وسيأتي لذلك مزيد تفصيل بإذن الله-، فهل هذا كاف في إبطال الاشتغال بها مطلقا؟

في الأمر تفصيل، ولكن المؤكد أنه كاف للتوجس والحذر –كما كان على ذلك أئمتنا المتقدمون وإن اختلف السياق-، وكافٍ في أن لا نتخذ الفلسفة فيصلا في معاركنا الفكرية، ولا علَما هاديا يوضع أمام المبتدئين يريهم السبيل لفهم النفس والحياة والكون .

 

1- لعل أقدم ما جاء من ذلك قول الشافعي في السياق اللغوي-الاصطلاحي: (ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس)، لكن قال الذهبي في “سير النبلاء” (19/58) إثره: (هذه حكاية نافعة، لكنها منكرة، ما أعتقد أن الإمام تفوه بها، ولا كانت أوضاع أرسطوطاليس عرّبت بعد ألبتة).
2- كقول ابن نجيم الحنفي في “الأشباه والنظائر” عند ذكر العلوم المحرمة: “علم الفلسفة والشعبذة والتنجيم والرمل وعلم الطبيعيين والسحر”.
3- سيأتي بيان مختصر لهذا الأمر في مقال لاحق بإذن الله تعالى.
4- الدكتور الطيب بوعزة في حوار مع مركز نماء منشور بتاريخ 18 يوليوز 2012.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى