نقد

آلیات التماسك النّصّي في شعر سمیر العمري.. قصیدة “القدس” نموذجًا (1)

قصيدة القدس

مقدّمة

تعدّ لسانیات النصّ في إطار الدرس اللساني الحدیث تطوراً ملحوظاً ومنهجیاً في الدراسات اللغوية التي تهتمّ بالکشف عن أغراض الخطاب التداولية ومقاصد المتحدثین ودراسة السیاقات المتضاربة التي تبلورت ضمنها الإنتاجات الأدبية والإبداعات الفنية. إذن یمکننا القول إنّ موضوع الانسجام والتماسك من المحاور الألسنية الجدیدة التي تمتّ بصلة وثیقة إلی تماسك الخطاب وتحلیله الذي یُکسبه سمة نصّيّة. الذي لا ریب فیه أنّ النصّ یتألّف من وحدات لغوية منضدة توجد بینها علاقات الترابط والتنسیق حیث یکوّن هذا التعالق والتماسك ضربًا من ضروب الصلة بین عالم النصّ وعالم الحقیقة التي یصورها النص. یعتبر التماسك النصّي من المصطلحات التي اهتمّ بها الدرس اللغوي الحدیث ضمن لسانیات النصّ، إذ یعدّ جانباً مهماً ومظهراً من مظاهر النصية التي رکزّ علیها روّاد لسانیات النص، لأنّ هذا الفرع من اللسانیات یتجاوز حدود الربط بین أجزاء الجملة الواحدة وینظر إلی النص بمثابة هیکلية واحدة ذات تناسق واحد لتتکوّن من خلال هذا الأمر رؤية شاملة وعامّة لإنتاج النص المبدع، فینطلق من الرؤية الکلّية للنّصّ دون العناية بأجزائه. یهتمّ علماء اللسانیات إلی الجملة بمثابة أکبر وحدة لغوية فضلاً عن العناية بالمکونات اللغوية الأخری ویتطرقون في تفسیر الجمل إلی شرح الأسس الدلالية والمنطقية إلی جانب القواعد النحوية والترکیبية. من هذا المنطلق، یعالجون تحدید المعنی عبر النص الکلّي الذي یتألّف من أجزائه. یدلّ هذا الأمر علی أنّ النص یکسب معناه عبر ترابط الجمل والعبارات مع وجود الصلة بین الجملة السابقة واللاحقة لکي یصبح عند المتلقي نصاً  کلّیًا.

منهج البحث

تمّ إعداد هذا البحث وفق المنهج الوصفي التحلیلي معتمداً علی المصادر الألسنية التي کانت ضرورة لإنجاز الدراسة.

خلفية البحث

لم یعثر الکاتب في المواقع الإلکترونية أو المجلات العلمية المحکّمة علی شيء من البحوث والدراسات التي تمّ نشرها فیما یمتّ بصلة إلی تحلیل المعطیات الأدبية لهذا الشاعر الفلسطیني المقاوم، فلا یبعد إذا قلتُ إنّ هذه الدراسة مستقلة وقائمة بذاتها وفریدة في نوعها حیث تحاول تسلیط الأضواء وإضاءة ما یکمن وراء الأسطر الشعرية من مقاصد ومواقف شعرية وشعورية في القصیدة المعنونة “قصیدة القدس”.

فرضیات البحث

یشتمل البحث علی عدة فرضیات من أهمها ما یلي:

1- من المفترض خلال البحث أنّ الشاعر رمی إلی توظیف آلیات التماسك النصي لإخصاب النص الشعري وإضفاء نمط من الجمال الفني علیه.

2- یفترض أثناءَ البحث أنّ کل هذه الآلیات التماسکية من الإحالة والاستبدال والحذف والتکرار و… یعبّر عن الخلجات الروحية والنفسية التي خامرت الشاعر، ومن ثمّ اتخذها الشاعر أدوات تجسّد المعاناة والمقاساة بشتی صورها.

أسئلة البحث

جاءت إشکالية البحث في شکل تساؤلات، من أهمها ما یلي:

1- ما مفهوم التماسك النصي؟ 2- ما مدی توفر القصیدة علی وسائل اتساقية تشمل الترابط والتماسك لبنية القصیدة؟ 3- کیف تقوم الوسائل الاتساقية بفهم القصیدة وتأویلها؟ 4- ما أهمّ الوسائل التي تقوم بالترابط والتماسك بین المقاطع الشعرية والوحدات النصية؟

أهمية البحث وضرورته

تستمدّ هذه الدراسة أهمیتها من موضوعها الذي یعالج وسائل التماسك النصي التي لها دور هامّ في ترابط النص وتماسکه.

نبذة عن الشاعر

یعتبر الدکتور سمیر العُمَري أحد أبرز شعراء العرب من الطراز الأول ذا بصمة فریدة حیث یمازج بین الأسلوب وحداثة المضمون وهو مفکّر عربي ذو همّ إنساني ممتدّ وله جهود رائدة في النهوض بالمشهد الأدبي ورعاية الإبداع وصقل المواهب.

ولد الشاعر عام 1964م في قطاع غزّة وهاجر وأسرته إلی “السوید” عام 1998م ویحمل الجنسية الفلسطینية. یرأس الشاعر حالیاً الاتحاد العالمي للإبداع الفکري والأدبي وهي منظمة ثقافية عالمية تسعی لبناء جسور التواصل الثقافي مع الآخرین وتقدیم الهوية الثقافية الإسلامية کمنتج حضاري راقٍ ومساهمٍ. یعتبر أیضاً رئیس تحریر لمجلة “الواحة” الثقافية الصادرة عن رابطة الواحة الثقافية. أصدر الشاعر دیوانین شعریین معنونین “کفّ وإزمیلٌ” و”شُرفة الوجدان” اللذین یتمحوران حول القضية الفلسطینية، إذ حاول الشاعر عبرهما تجسید همومه ومعاناته النفسية والروحية تجاه جرائم الحرب ضدّ الشعب الفلسطیني المقهور.

نظرة إلی مصطلح التماسك النصّي

تعدّ ظاهرة التماسك النصّي من أهمّ المجالات التي تطرق إلیها علماء اللسانیات، إذ اهتمّوا بدراسة المیزات والخصائص التي تجعل النصّ متماسکاً متوحداً. أخذت مفردة التماسك حیزاً کبیراً في القوامیس والمعاجم والذي نجده خلال هذه القوامیس أنّ مادّة (مسك) تحمل معنی الحبس، حیث یقول ابن منظور: «مسك بالشيء أو أمسك به تمسك وتماسك واستمسك ومسك کلّه احتبس»([*]). یتضح أنّ مادّة المسك عند اللغویین تدلّ علی معنی الاحتباس والشدّ والربط. یقصد بالتماسك النصي من منظور المصطلح تلك الوسائل التي تتحقق بها خاصية الاستقرارية في ظاهرة النص([**]). من هذا المنطلق تظهر أهمية علم لغة النص حیث یفصح عن أوجه الترابط والاتصال بین وحدات النص بمستویاتها المختلفة کالترابط النحوي، الإشاري، الدلالي، وغیرها مما یجعل النص مترابطاً متماسکاً، فتبرز أهمية التماسك في «أنّ الکلام لا یکون مفیداً إذا کان مجتمعاً بعضه مع البعض الآخر دون ترابط»([***]).

آلیات التماسك النصي في قصیدة “قصیدة القدس”

تفق کثیر من الباحثین العرب والغرب علی أنّ الانسجام والتماسك ضروري لکل نصّ، ذلك أنّ کل جملة تمتلك بعض أشکال التماسك عادة مع الجملة السابقة مباشرة، من جهة أخری کل جملة تحتوي علی الأقل علی رابطة واحدة تربطها بما حدث قدماً، وبعض آخر من الجمل یمکن أن یحتوي علی رابطة تربطها بما سوف یأتي(1). تلعب هذه الروابط دوراً هاماً في تحقیق الوحدة الکلية للقصیدة التي تعدّ هذه الروابط لها مصدراً وحیداً للنصية. من هذا المنطلق، نعالج أهمّ عناصر التماسك النصي في القصیدة.

الإحالة (Reference)

المراد بالإحالة تلك العملية التي تحیل وترجع اللفظة المستعملة علی اللفظة السابقة أو الآتية وهي تصور العلاقات الدلالية التي تقیم نمطاً من التواصل والترابط بین العناصر اللسانية وهي «لا تخضع لقیود نحوية بل تخضع لقیود دلالية، إذ تستلزم خصائص دلالية بین العنصر المحیل والمحیل إلیه»(2). بناء علی هذا، تتوفر کل لغة طبیعية علی عناصر تملك خاصية الإحالة وهي الضمائر، أسماء الإشارة، الأسماء الموصولة، وأدوات المقارنة و…(3).

من نماذج الإحالة ما جاء في مستهلّ القصیدة حیث یقول الشاعر:

طُوفوا علی حرم الحبیبة أو قِفوا

وتصوّفوا في وصف ذلك أو صِفوا

ضُمّوا إلی الإحساس من أنفاسها

عَبَقَ المدی وتلهّفوا وتعرّفوا(4)

یتبین لنا عبر إمعان النظر في هذه الأسطر الشعرية أنّ الإحالة تعمل لتحقیق الربط بین البني النصية وتکوین الانسجام الدلالي بین البني المضمونية. نلاحظ أنّ الشاعر یکتفي بذکر الضمیر (الواو) دون البوح بالمتلقّين وتقدیم المعلومات الأخری من أجل تجنب التکرار والاقتصاد في الکلام. نری أنّ ضمیر المخاطب (الواو) یسیطر علی التعبیر ویخلق ضرباً من التفاعل بین الشاعر والنص من جانب، وبین النص والمتلقّي من جانب آخر، فالضمیر المتصل یحیل علی عنصر سابق غیر مذکور في النصّ وهذا ما یجعل النصّ أکثر التحامًا وتماسکًا. یعدّ هذا الضمیر بمثابة مرآة تعکس انفعالات الشاعر وتفاعله مع قضية القدس الشریفة التي تعانی مصائب شتّی. نلاحظ أنّ توظیف هذا الضمیر یربط اللغة بسیاق النصّ بجمع شتاته وضمّ أجزائه،فکثرة ضمیر المخاطب تدلّ علی افتقار النص إلی الاتساق والتماسك، لأنّ هذا الضمیر یحال دوماً إلی خارج خارطة النصّ الشعري حیث یشکّل حواراً بین النصّ والمتلقّي. فعلی المتلقّي أن یتناول فهم عناصر تحیل علی المسمیات داخل النصّ وخارجه لإقامة الربط بینها لیتجاوز بذلك المعنی السطحي عثوراً علی المعنی العمیق. إذن، تشکّل تمظهرات الإحالة ضمن النسیج الشعري «جسراً لسانیاً لعبور الدلالة خصوصاً بتعالقها مع المفردات الأخری وتؤطر لکثیر من الرؤی في عالم النصّ الشعري»(5).

هذه التقنية اللسانية تحثّ المتلقي علی مواصلة القراءة وخلق نمط من التماسك بین أجزاء القصیدة. تتسم عملية القراءة ضمن خارطة النص الشعري عبر الإحالة بالاستمرارية التي تجعل النص بنية متماسکة مترابطة، إذ ترتکز الإحالة علی تنمية المقدرة التحلیلية لدی المتلقي في ربط النص بالسیاق المقامي والبنية الکلية للقصیدة. إنّ المتأمل في هذه المقطوعة الشعرية یجد أنّ الإحالة تتوقف علی معرفة ما یحیط بالنص من مواقف خارجية ساقت الشاعر مساق عملية الإبداع الفني، ألا وهي قضية الاحتلال الأجنبي لفلسطین وما رافقها من قتل وتدمیر وقصف وإراقة دماء الأبریاء. فجاءت الإحالة معبرة عن الربط بین عناصر الإحالة بالموضوع الرئیس للقصیدة وکانت مرتبطة ومتماسکة بالمحور الرئیس للنص الشعري الذي هو الانتماء وحبّ الوطن المسلوب. من هنا ساهمت الإحالة في اتساق النص المبدع حیث تقیم علاقات وطیدة بین الأبنية النصية بموضوعها، فجعلت منها کلًّا موحّداً من البداية إلی النهاية وتمیّزت وحدات القصیدة بالکلام عن موضوع واحد وهو التعلّق والانتماء.

 الاستبدال (Substitution)

یعدّ الاستبدال من بین عناصر التماسك النصي الأکثر أهمية وتوظیفاً والتي لا یخلو أي نصّ مبدع من وجوده. المراد بالاستبدال «صورة عن التماسك النصي التي تتمّ في المستوی النحوي المعجمي بین کلمات وعبارات، وهو عملية تتمّ داخل النصّ. إنّه تعویض عنصر في النص بعنصر آخر وصورته المشهورة استبدال لفظة بکلمات»(6). تعود أهمية الاستبدال إلی المساهمة في اتساق النصّ وربط المکونات وترد في معظم الأحیان بصورة قبلية أي یذکر عنصرٌ ثمّ یستبدل في نفس الجملة أو في جملة أخری بعنصر لغوي آخر. یتمیّز الشاعر “سمیر العمري” من خلال ما یتمتّع بقوة الأسلوب وجودة القریحة في التعبیر خاصة عبر توظیف الاستبدال کأداة مطواع وناجعة للإبانة عما خامر کیانه من عواطف ومشاعر دفینة.

من نماذج قوله في الاستبدال:

إنّا لَفي زمن الأخوّة أطلقت

ذِئبَ الشقاقِ ولیس فینا یوسفُ(7)

سقطت من الزیتون دمعةُ ذلّه

للغرقدِ الملعونِ وهو یجرّفُ(8)

غصنٌ هوی لکن تشبّثَ جذرُه

ولَسوفَ ینبتُ بالصمود ویُورفُ(9)

قد کان فتحُ القدسِ فتحَ قداسةٍ

وعداً من الدَّیّانِ لایتخلَّفُ(10)

نلاحظ عبر هذه الأسطر الشعرية أنّ مجموعة من الاستبدالات الاسمية تخلّلت المقطوعة الشعرية، منها (یوسف (ع): الغدر/ الزیتون: الوطن/ الغرقد: الکیان الصهیوني / غصن: الوطن / الدّیّان: الله تعالی). إنّ الممعن في هذه المفردات الاستبدالية یجد علاقة بین المستبدل والمستبدل­منه.فیشترك اللفظانِ في الدلالة وهذا مما یعطي الاستمرارية للنصّ ویمنحه شکلاً منسجماً.

یدلّ توظیف هذه الاستبدالات عبر خارطة النص الشعري علی حرص الشاعر والالتزام بالاستمرارية لنصه الشعري والابتعاد عن الرتابة التي تصیب المقطوعات الشعرية إثر عدم الاکتفاء بالمفردات النصية والدلالية الجدیدة. ینطوي هذا الاستبدال بالمفردات الدلالية علی دلالات قریبة فیما بینها. تبّین لنا عبر تدقیق النظر في ثنایا هذه المقطوعة أنّ الشاعر جنج إلی توظیف تقنية الاستبدال اللسانية لتجنب التکرار الذي یخلّ بالمفردات النصية التي تحمل مغزی النص وتلعب دوراً محوریاً في تجسید المعنی وبلورة الفکرة الرئیسة للنصّ وتمطیط البؤرة الدلالية وتنمیتها. من المعلوم عبر الأسطر الشعرية المذکور أعلاها أنّ توظیف الاستبدال یکسب النصّ الشعري نمطاً من الاستمرارية التي تجعل الشاعر یسوق الکلام دون أي صعوبة ولا تعسّرٍ، إذ تمهّد هذه التقنية أرضية مؤاتية ومجالاً أرحب للاسترسال في النظم مما یجعل القصیدة تتّسم بالحیوية والمرونة ضمن عملية الإبداع. من الواضح ههنا أنّ الاستبدال یلعب دوراً هامّاً في تجسید المشاعر والعواطف المکنونة والأحاسیس المکبوتة عند الشاعر، ألا وهي فکرة الاحتلال الأجنبي للوطن الأمّ وما عانی شعبه المقهور من ممارسات إجرامية. من هذا المنطلق، نجده یرمي إلی استخدام الاستبدال واستنطاق الألفاظ ومحاورتها عبر خارطة النصّ الشعري بالتعویضات اللغوية الجدیدة التي تقیم وشائج وطیدة بین الشاعر وعواطفه من زاوية، وبین النصّ والمتلقي من زواية أخری، فجاءت المقطوعة الشعرية عبر عملية الاستبدال لإعادة شحن الوجدان بالعواطف والحنین إلی الوطن والشعب المقهور.

الحذف (Ellipsis)

یعدّ الحذف من أکثر الظواهر اللغوية شیوعاً واستعمالاً في إطار اللغة وهذا یعود إلی دوره الهامّ في تشکیل بنية الخطاب مما یجعل النص أکثر تماسکاً واتساقاً. یستشفّ الحذف في الدراسات اللسانية النصية علاقة من علاقات الاتساق المعجمية النحوية داخل النصّ، «وتتکون بافتراض عنصر غیر ظاهر في النصّ، یهتدي المتلقّي إلی تقدیره اعتماداً علی نص سابق مرتبط به، وهذا یعني أنّ الحذف عادة علاقة قبلية، لأنّه في معظم الأمثلة یوجد العنصر المحذوف المفترض في النص السابق أو الجملة السابقة»(11). من الواضح أنّ إسقاط الوحدات النصية عبر عملية الإبداع لاینجرّ إلی أيّ إنقاض في المعنی أو تکوین خلل في البؤرة الدلالية أو تشویه بنية النص المبدع، من ثمّ ذهب معظم علماء اللسانیات إلی أنّ الحذف هو عبارة عن استبعاد للعبارات السطحية في النص، والتي یمکن لمحتواها المفهومي أن یقوم في ذهن المتلقّي، أو أن یوسع أو یعدل من خلال العبارات الناقصة(12).

من نماذج قول الشاعر في الحذف:

یسعی بمحتدمِ التعلُّقِ بالتي

یهوی، ویرشفه المعینُ فیغرفُ(13)

ویطیبُ لي إن رامَ ودّكِ عاشقٌ

أو إن تغزّلَ شاعرٌ ومؤلِّفُ

ما عادَ إلاّ القابضون علی السلاح

الراقصون علی الجراحِ الهُتَّفُ

ماذا یریدُ العابثون تفاوضاً

والقدسُ وقفُ المسلمینَ ومَوقِفُ(14)

نلاحظ عبر الأسطر الشعرية أنّها تتضمن علی عدد من مواضیع الحذف بمختلف أنواعه، سواء کان اسمیاً أو فعلیاً أو جملیاً. بذلك یتمّ حسن السبك للتأثیر في نفسية المتلقّي لکي یستخدم آلیاته القرائية لإفراغ هذه الفجوة عبر استحضار القوی الذهنية للربط بین مکونات القصیدة وعناصرها الفنية.

 لا ریب أنّ هذه التقنية الألسنية تضافر علی تماسك النص واتساقه، إذ ساعدت الشاعر علی التعبیر عن الهواجس والمکنونات القلبية في جمل قلیلة هادفة مقصودة، وعلی قلّتها القلیلة استطاع عبرها إیصال رسالته إلی المتلقي الذي یرید سبر أغوار النص. نجد الشاعر یعمد إلی حذف الموصوف وإبقاء الصفة في الاسم الموصول الوارد في الشطر الأول من النص (التي) حیث أراد به (الحبیبة التي یهوی ویحبّ)، فلیست الحبیبة سوی القدس،مسقط الرأس، وفي الشطر الثاني حذف جواب الشرط من الجملة (إن رامَ) وخلت من جواب الشرط، إذ لکل شرط جواب مذکوراً  أم محذوفاً، وفي الشطر الثالث حُذفت هذه العبارة (ما عاد إلاّ) حیث أتت بعدها المفردة (الراقصون) ثقةً بذکر هذه العبارة في الشطر السابق، وفي الشطر الأخیر من النص حذف الفعل وبقی المفعول­به منصوباً حیث یقول: ماذا یرید العابثون؟ فأجاب: تفاوضاً أي یریدون تفاوضاً. یعود دلیل الحذف إلی أنّ المقام لایتسع لإعادة الجملة، أو أراد الشاعر عبره تجنّب التکرار طلباً للاختصار أو لدلالة الکلام السابق علی المحذوف.

نلاحظ أنّ عملية الحذف تؤدي إلی الانسجام والتماسك للنص وتسهم في ترابط أجزائه، إذ نجد الشاعر عبر عملية الحذف یجنح إلی تکثیف الدلالة وتمطیط المعنی عبر الاکتفاء بالألفاظ القلیلة والعبارات الموجزة ملتجأً إلی تخزین المعاني في إطار یتسم بالإیجاز غیر المخلّ لیضفي علی خارطة النص الشعري نمطاً من اللون الجمالي والإبداع الفني لیزاوج من خلال الحذف بین عمق الدلالة وطلاولة النظم الشعري. من هنا للمتلقي دور هامّ ویُذکر في التنقیب عن المعاني وسبر أغوارها وتتمیم الفراغ البنیوي وسدّ الفجوة بالعنصر المناسب علی بنية القصیدة لاستیعاب المعنی الدفین وراء النصّ. من هنا تبرز أهمية الحذف النصية، لأنّ الترکیب اللغوي لعنصر ما لا یبین ولایعرض کل اختیارات المعنی الکامنة فیه وبالتالي یحدث الحذف لیبین بعض خواص بنیته وترکیبه(15).

⇐ الجزء الثاني من المقالة

*- ابن منظور،لسان العرب،دار صادر، بیروت، 1978م، مادة مسك.
**- دي بوجراند،النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمام حسان،عالم الکتب،القاهرة،1998م، ص103.
***- حماسة،بناء الجملة العربية،دار الشروق، مصر،ط1، 1996م، ص74.
01- الفقي، علم لغة النص بین النظرية والتطبیق، دار قباء للطباعة والنشر والتوزیع، القاهرة، 2000م، ص93.
02- خطابي، لسانیات النص مدخل إلی انسجام الخطاب، المرکز الثقافي العربي، ط1، بیروت، 1991م، ص17.
03- المصدر نفسه.
04- العمري، دیوان کفّ وإزمیل، دار الجندي للنشر والتوزیع، القدس، ط1، 2015م،ص 19.
05- فتحي رزق، تحلیل الخطاب الشعري، أزمنة للنشر والتوزیع، عمان- الأردن، 2006م، ص 67.
06- بوقرة، المصطلحات الأساسية في لسانیات النصّ وتحلیل الخطاب دراسة معجمية، عالم الکتب الحدیث، الأردن، 2009م،ص63.
07- العمري، السابق، ص26.
08- المصدر نفسه، ص28.
09- المصدر نفسه، ص23.
10- المصدر نفسه، 38.
11- الداودي،الترابط النصي بین الشعر والنثر، دار جریر، ط1، الأردن 2010م، ص51.
12- دي بوجراند، السابق، ص301.
13-العمري، السابق، ص19.
14- المصدر نفسه، ص28.
15- عفیفي، نحو النصّ، مکتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2001م، ص99.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى