جحيم المعرفة ونعيم الجهل والنسيان
“النفسُ مثل *الباطُوس – وهو جُب القَذَر- كلما نبشتَه ظهر وخرج. ولكن إن أمكنك أن تَسقُف عليه، وتعبره وتَجوزُه فافعل، ولا تشتغل بنبشه؛ فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئا ظهر غيرُه” ابن تيمية
(1)
ثلاثُ عائلات، ثلاثُ زوجات، ثلاثة أزواج، وصديقٌ واحد أعزب، تجمعهم مأدبةُ عشاء استضافتهم فيه إحدى العائلات الثلاث، يستمتعون بالطعام، ويتبادلون الحديث والذكريات، ويراقبون في الوقت نفسه خسوف القمر الذي سيحدث في هذه الليلة.
يجرهم الحديث لقضية الأسرار، وحجم ما يُخفيه الشخص عن أهله وأصدقائه ومحبيه، بل وحتى على شريك حياته.
– ((لا أسرار عندي))، هكذا نطق بعض الجالسين على المائدة؛ ليقود تداعي الحديث سيدةَ الأسرة المستضيفة لهم لتقترح أن يلعبوا لعبة، وهي أن يضع الجميع هواتفهم على المائدة، وليكن كل ما يرِد على تلك الهواتف خلال تلك السهرة مشاعًا يطَّلع الجميع عليه لحظة حدوثه؛ الرسائل: تُقرأ علانية بصوت عالٍ، المكالمات: تُجرى وميكروفون الهاتف مفتوح، محادثات الفيسبوك: يطلع الجميع على مضمونها، رسائل الواتس، تنبيهات الهاتف وبرامجه: كل شيء سيكون حمى مستباحًا، فلا خفاء تلك الليلة؛ لنرى هل بالفعل لا أسرار عندنا ولا بيننا؟
ساعاتٌ قليلة من هذا العَلَن كانت كفيلة بأن تتفجر على مائدة هذا العشاء المنكوب معظم الأسرار التي يملكها الجالسون، البنت تُفضي في هاتف أبيها جليّ الصوت بنظرتها السيئة لأمها التي تسمع مصدومة، الزوجة التي تبحث عن دار رعاية مسنِّين؛ لتأوي أم زوجها التي تسكن معهم، المعالِج النفسي الذي يذهب له أحد الأزواج خِفية، ظهور نفاق النفوس فيما يستعلنون الإيمان به من قِيَم، خيانات زوجية من جانب واحد، ومتبادلة، ميول جنسية شاذة، بركان هائل دمَّر علاقات تلك الأُسر في لحظة علانية واحدة.
“وإن شهوة الاطلاع على مخبآت القلوب، والرغبة في كشف ما تكنه النفوس، والسعي المحموم لمعرفة ما يخفيه الناس، والنبش عما يطمره صاحبه فضلًا عن النبش عما تاب منه صاحبه كل ذلك شرٌّ وفساد، ولم يجعل الله دواء السرائر ولو ساءت: أن تُفضح، ولا جعل للناس حقَّ العقوبة بالفضيحة، ولا أعطى لأحد من الناس سلطان تسور الحيطان، ونزعُ أقفال الستر بتحقيقات من نصبوا أنفسهم قضاة لا سلطة لهم إلا علاقات لا تعطي لصاحبها هذا الحق، ولو كان أبًا أو أخًا أو خاطبًا أو حتى زوجًا أو زوجة” أحمد سالم
ثم ينقلنا مخرج هذا الفيلم الإيطالي من مشهد انهيار تلك العلاقات؛ لمشهد تنصرف فيها الأسر المَضيفة في هناء يشبه هناء دخولهم، ثم تنتقل الكاميرا لغرفة نوم الأسرة المُضيفة كاشفة عن النهاية الافتراضية لهذا الفيلم (أو لعل ما سبق هو الافتراضي)، والزوجة تسأل زوجها قائلة: لماذا رفضتَ أن نلعب تلك اللعبة؟
ليجيبها الزوج: لم أكن أرى أنها فكرة سديدة؛ لأننا قابلون للكسر جميعنا، وبعضنا أكثر من الآخر.
ثم يقول وهو ممسك بهاتفه: أنت محقة في ذلك: لقد أصبح هذا الشيء صندوق أسرارنا الأسود، الذي يحمل كل شيء بداخله، ولعله يحمل الكثير، وشيء كهذا من الخطأ اللعب به.
(2)
النفس الإنسانية غابة مذهلةٌ شديدة التركيب والتعقيد، وفيها من أودية الظلمة بقدر ما فيه من منافذ لاستقبال الضياء، وليس يُطلب واحد من الناس أن تُكشف له هذه الظلمة إلا وقد اختار أن يُحيل الحياةَ وجهًا غير الذي كانت عليه.
في ثلاثية إيجور لأستاذنا الدكتور أحمد خالد توفيق، يبدأ البولندي العجيب إيجور تاركوفسكي؛ في فتح الغرف العقلية لأحد الذين اخترق عقولهم بقدراته العقلية الاستثنائية، وسرعان ما يفر بعقله مسرعًا عندما راعته الأهوال التي يخفيها هذا الرجل داخل عقله، فكم من نفس نصادقها ونعاشرها سنفِرُّ إن نبشنا كمائن القلب منها؟
إن العقل والنفس والقلب هنا تنويعةٌ على لحن واحد، وهو لا محدودية ما يمكن أن يخفيه الإنسان خلف صورته المصنوعة تلك التي يريها للناس.
إن الصورة التي يرسمها الشخص لنفسه أمام الناس= ليست واقعية، وتتفاوت درجة بعدها عن الواقع بتفاوت عوامل كثيرة.
فهناك عامل الصدق والذي يؤدي غيابه إلى أن يكذب المرء في تصوير نفسه. وهناك عامل الستر حيث يُنهَى الرجل عن فضح نفسه والمجاهرة بذنبه. وهناك التلقائية والسجية وجريان الإنسان عليها، أو كتمه لطباع نفسه تجملًا، وأخرى بين ذلك كثيرة.
والإنسان مأمور بالاحتياط بمسالكه الشرعية، فلا يغتر غرورًا يُهلكه، بصورة قد يكون وراءها فسادٌ يغلِب حسن ظاهرها، ومأمورٌ مع ذلك بحسنِ الظن، فلا يجعل التجسس مسلك احتياطه، أو التدسس إلى المخبآت طريقًا يَروي به ظمأ شكِّه، وأكثر علاقات الناس يكفي فيها الرضا بالظواهر.
وإن شهوة الاطلاع على مخبآت القلوب، والرغبة في كشف ما تكنه النفوس، والسعي المحموم لمعرفة ما يخفيه الناس، والنبش عما يطمره صاحبه فضلًا عن النبش عما تاب منه صاحبه كل ذلك شرٌّ وفساد، ولم يجعل الله دواء السرائر ولو ساءت: أن تُفضح، ولا جعل للناس حقَّ العقوبة بالفضيحة، ولا أعطى لأحد من الناس سلطان تسور الحيطان، ونزعُ أقفال الستر بتحقيقات من نصبوا أنفسهم قضاة لا سلطة لهم إلا علاقات لا تعطي لصاحبها هذا الحق، ولو كان أبًا أو أخًا أو خاطبًا أو حتى زوجًا أو زوجة.
والميزان الذي أتى به الوحي في هذا الباب مركب من أمرين أساسيين:
الأول: أمرُ الإنسان بالسعي الدؤوب والمجاهدة الدائمة؛ من أجل أن ضَبَطَ العلاقة بين سريرته وعلانيته، فميزان النجاح والتوفيق ومعيار قياسه إنما يتحدد بمدى الفجوة التي بين سريرتك وعلانيتك، وشرُّ الناس من حسن ظن الناس فيه وغضب الله عليه؛ لأجل سوء من العمل غالبٍ مستور، ثم هو لا يبالي بذنبه ولا يخشى ربه، والشيء الذي يغفل عنه كثير من بني آدم أن هذا الشخص المتواري في *أغوار نفسك، هو الذي ستُحاسب عليه، وليس ذاك الغريب المتصنِّع الذي يعرفه الناس.
ومن جعل اللهَ قِبلَتَه، والسريرة ميزانه كان في ذلك فلاحه، ومن جعل الناس غايته والعلانية معياره كان في ذلك خسرانه، وأكثر الناس يسرفون في الذم وفي المدح، وخطرُ الإسراف في المدح على نفسك أعظم من خطر الإسراف في الذم؛ لأن غاية الإسراف في الذم أن يؤذيك ويسوئك ، أما الإسراف في المدح فهو يغرك ويطغيك ويُضلك عن عيب نفسك.
وقوام الأمر: صدق النصيحة والعدل فيها، وصدق النفس، وألا يخدعك عما تعلمه منها حسنُ ظن الناس فيك.
الثاني: أن الإنسان مأمور بستر نفسه، فلا يُجاهر بذنبه مفاخرًا، ولا يكشف ستر الله عليه فيفضح نفسه ولو تائبًا؛ فإن التوبة في ديننا لا تُحوج صاحبها إلى كرسي اعتراف.
إن الأمر المهم هنا هو أن مخبآت الصدور ملك لله وحده، فعلمها، وسترها، وعقوبتها أو مغفرتها كل ذلك ملكٌ لله وحده، فأنت مأمورٌ بمجاهدة نفسك؛ لكي لا يكون في سرك ما يُغضب الله، ومأمور ألا تكون خشيتك للناس أعظم من خشيتك لله، ثم لأن الله عليم بضعف الإنسان وخشيته من الفضيحة العاجلة وغفلته عن العقوبة الآجلة فإنه سبحانه يعلم أنه ليس يَسلَم واحدٌ من الخلق من الوقوع في كبائر هذا وصغائره؛ لأجل ذلك جُعل باب التوبة مشرعًا لا يحول بينك وبين الله أحد، وسد الله على الناس مسالك أن يفضحوك بذنب أو أن يعيروك بخطيئة، وإن كان أكثر الناس لا يتقون.
ثم لم يجعل الله لأحد من الخلق سلطانًا عليك فتفضح نفسك أمامه، والأصل الغالب على معظم فروع الشريعة هو الأمر بالستر على عموم الخلق، وما جاء في ذلك من استثناءات فهي كاسمها: استثناءات، يُناط فعلها بأهل الفقه والاجتهاد والبصيرة بالدين الأول يضعونها في مواضعها ولا يجعلونها مطية يركبون بها ظهور العصاة يبغون بذلك علوًا في الأرض أو فسادًا.
إن أحد الأخطاء الكبيرة التي يقع فيها الناس هو تعاملهم مع الذنوب والمعاصي بمنطق الاستشارات الاجتماعية، فيقوم الواحد منهم يفضح نفسه بين يدي صاحبه أو شيخه أو كاتب يعرفه على الشبكة أو ما شئت ويَعُد هذا طلبًا لصلاح النفس ودواء لمرض القلب.
والحال أن أكثر ذلك فساد لا يحبه الله عز وجل؛ فليس شيء من المعاصي والذنوب مما له سَطوةٌ تقهر الخلق، وشهوةٌ تغلب الناس، إلا والكلام في مداواتها كثيرٌ مسطور لا يحوج إلا لعزيمة صادقة.
وإن كان لا بد: ففي الأسئلة المعماة لمن لا يعرف اسمك ولا يمكنه الاطلاع على شخصك فسحة يسعك اللجأ إليها؛ فلا تفضح نفسك.
أما أن تقوم إلى رجلٍ من الناس يعرفك فتفضح نفسك بين يديه بدعوى طلب النصح والمشورة والمداواة فليس هذا هَديًا، والشريعة حثت على ستر النفس حتى في موجبات الحدود، وحتى عن السلطان الذي حدّه يُطهِّر، فكيف يستبيح الناس فضح أنفسهم هكذا؟!
وحتى العلاج النفسي وما يشبهه، قليل من مضايقه جدًا هو ما يُحوج الإنسان لفضح ذنبه، وأكثره لا يحتاج أكثر من الإشارة والتلميح، أما التوسع في فضح النفس تحت غطائه فقبيحٌ يُفسد.
وليس أقرب ولا أعون من أن يشكي العبدُ إلى ربه ويسأله زكاةَ نفسه، وإنما نقصت معرفتنا بالله فصرنا نعوذ بغيره، ورسول الله يقول: لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، وليس أنفع للعبد من أن يُقبل على العفوِّ الكريم، فهو وحده يستر العيب ويقبل التوبة، ويثيب على الحسنة بعشر أمثالها.
وإن من أبواب الشر العظيمة أيضًا التي لا يفوتني ذكرها هنا والتي يتساهل فيها الناس، خاصة المتدينين: التساهل في إفشاء أسرار أهليهم، من الآباء والأمهات، والإخوة والأخوات، فترى الواحد منا يجعل مادة سمره بين زملائه أن يتكلم عن معاصي أبيه وأمه وإخوته، وعن معاناته هو في هذا البيت الجاهلي كما تَوَهَّمَتهُ نقاوتُه الخرقاء، سواء كَسَر بهذا وجهَه راسمًا أمارات الألم، أو ذَكَر هذا متفكِّهًا يزجي به الوقت.
ويتسلسل الموضوع ليكون حديث مجالس إخوانه عن فلان وأبيه، وفلان وأخته، مع تعصير العينين بدعاء بارد بالهداية.
ليس هذا حق أهلك عليك!
لو كانوا أجانب عنك= لوجب عليك سترهم!
تلطف في نصحهم، ولا تكن رقيبًا على أفعالهم، ولا تفضحهم، ولا تذكرهم بين الناس إلا بأحسن ما تعرف، وإن شر العقوق الفضيحة.
(3)
وإذ قد أفضنا في الكلام عن خطورة التدسس إلى مخبآت نفوس الناس، وإلى أهمية أن يسترَ الناس أنفسهم ما استطاعوا فلا يتخذوا الشكوى والتداوي والمشورة غطاءً يفضحون تحته أنفسهم فلا يفوتنا هنا أن نذكر بابًا من نبش النفوس عظيم، وهو أن ينبش الإنسان ذاته التي بين جنبيه.
في واقعنا: تورط الناس في أنواع من النبش عن عيوب النفس واجترار مرارتها لا تكاد تأتي بخير، أحيانًا تحت اسم المحاسبة، وأحيانا في أزماننا باسم الصدق مع النفس.
والواقع أن محاسبة النفس والصدق معها لا بد أن تكون بحذر بالغ وبهدوء شديد، كمِبضَع الجرَّاح يريد أن يستأصل موضع الخلل دون تدمير مواضع الصحة والعافية، ودون إدماء يطيل مدة النقاهة.
والناس يتوسعون في نبش عيوب أنفسهم والحزن عليها، وجلد الذات على الذنب حتى يُقعدهم هذا عن الخلاص من الذنب وعن عمل الصالحات جميعًا.
يقول شيخ الإسلام: ((النفسُ مثل الباطُوس – وهو جُب القَذَر- كلما نبشتَه ظهر وخرج. ولكن إن أمكنك أن تَسقُف عليه، وتعبره وتَجوزُه فافعل، ولا تشتغل بنبشه؛ فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئا ظهر غيرُه)).
إن التوسع في نبش النفس باسم الصدق معها أو المحاسبة قلَّما ينفع، وإن القدْرَ الضروري من الصدق والمحاسبة أقل بكثير مما يبذله الناس من الحفر المدي مع ما يعقبه من العويل والشكوى على ضعف نفوسهم، والعاقل من تفكَّر في عيبه بقدر ما يقوده ذلك للمداواة، لا بقدر ما يُقعده ويجعله يبغض نفسه ويحقرها حتى يقنط من نفسه قنوطًا ينتهي غالبا بأن يقنط من رحمة ربه، وهذا من الأبواب العظيمة للفرق بين الأحوال النبوية والأحوال الصوفية.
إن ما فات لا يعود، والندم الذي يحبه الله هو ندم يُتخذ وقودًا للحسنات، وخوفُ الذنب الذي يرضاه الله، هو خوف تستعين به إن أعجبك عملك أو غرتك نفسك بحسنة وفقك الله إليها، وليس أشفى للنفس بعد ذلك من نسيان يحملها على العمل، ولا أضر عليها من ذكرًى تؤرقها فتقعدها فتك*سرها فتقتلها.
ولقد رأيت كثيرًا مما يُقعد الناس عن العمل يرجع إلى باب ذكرى عيب النفس ونقصها، ونبش ماضيها وبقعها المظلمة، ثم لوم النفس وجلدها، واحتقار أن تأتي خيرًا أو يُرجى منها نفع، أو حتى-وذلك مسلك قوم آخرين- تحويل الماضي إن كان من جناية الناسِ عليك= إلى مشجب يُعلق الإنسانُ عليه قعود نفسه وتضييعها لعمرها وتبديدها لطاقاتها.
وتبقى إشارة أخيرة في هذا المقام:
(أخوك، أختك، صديقك، وأحيانا والداك، وممكن حد من عموم الناس لو انت شخصية عامة أو مفتي مثلا).
هناك لحظة ضعفٍ معينة تدفع شخصًا ما من هؤلاء لتعرية نفسه أمامك،
يُطلعك على صندوقه الأسود،
يصطحبك إلى الجانب المظلم من حياته،
أحيانًا كثيرة يندم بعدها على فعله هذا، وقد تراه بعد ذلك يفر منك؛ لأنه كلما رآك كرِه لحظة ضعفه هذه،
يشعر حرفيًا إذا رآك أنه بلا ثوب يستره،
أنا أعاني من هذا كثيرًا مع الناس، ولذلك أجتهد قدر ما أستطيع أن أنسى أن الشخص قد حكى لي شيئا،
لا أذكره به قط،
لا أسأله عن الموضوع تحت ستار الاطمئنان،
أنسى تماما،
وإذا رأيته عَطَّلت شاشة العرض في رأسي؛ كي لا تعرض شيئًا مما أخبرني به.
في الحقيقة: أحاول أن أساعده على أن يُطمئن نفسه، فما يظنه قد حدث، وأنه أخبرني بمستورِ نفسه هذا لم يحدث قط.