فنونمسرح وسينما

لغة الصمت المسرحي

“الصمت هو شي يصعب على الجميع تفسيره”
إن كان هذا القول ينطبق على ما هو واقعي في حياتنا اليومية فهل ينطبق على خشبة المسرح التي ابتكرت لها ما يميزها من القوانين والاشتراطات الفنية الخاصة التي تميّزها عن تلك التي وضعت للحياة وأرست دعائمها التجربة البشرية؟

ما نبحث عنه هنا هو ملامسة الكيفية التي تتيح لنا تفسيره بدقة تامة أو تقريبه، على اقل احتمال، لجمهور النظارة وهم يدشنون قدراتهم على استيعابه، ويرومون إلى فهم لغته المعقّدة وما وراء سطورها. فاذا صعب تفسيره في الحياة الواقعية فهل يصعب ذلك على خشبة المسرح؟ علما إن الخشبة في الأعم الأغلب تحاول جاهدة وضعه موضع الوضوح والفهم، وهذا هدف مركزي في الحياة القائمة عليها.

لقد تبنت الخشبة لغة الصمت لأنها تسعى إلى التعبير الدقيق عما لا يمكن للكلمات احتواءه أو التعبير عما يعتور الإنسان من المشاعر العميقة والغامضة، ولا قدرتها على التقارب مع قدرة الموسيقى على استكناه تلك المشاعر. إن مهمة المسرح هو تقريب المعنى ليتسنى فهمه وتفسيره من لدن المشاهد بشكل خاص والمتلقي بشكل عام، ومن اجل هذا ابتكرت الخشبة لنفسها لغة صمت صورية قائمة على جملة من الحروف التي تشكل هيكل هذه اللغة وأساسها. إن هذه الحروف في حقيقتها الظاهرية إن هي إلا (حركات وإشارات وإيماءات) وعلى الرغم من تمايز بعضها عن بعضه الآخر إلا أنها تعد حركة سواء أكانت تلك الحركة انتقالية أم موضعية أم داخلية. وهنا يمكن القول إن واجب التمثل الصامت هو تحويل الفكرة إلى حركة وإظهار المشاعر الكامنة في تلك الفكرة، وان من يقوم بهذه المهمة ويجسدها على خشبة المسرح هو الممثل الصامت الذي يحسن استخدام لغة الصمت الحركية التي يصنعها جسده على خشبة المسرح طوال العرض الصامت، ويحسن قراءتها المتلقي الذي طوع حاسة بصره على قراءة حروفها الغامضة. يقول د. عوني كرومي:
“الممثل الصامت هو الذي يعبر عن مظاهر الحياة وينقلها بواسطة جسده”

لغة الصمت إذن تتمحور حول جسد الممثل الذي يمتك حروفها الصورية المتضافرة لصنع صورة أو مجموعة من الصور المرئية عن طريق الحركة أو مجموعة الحركات التي ينبثق عنها المعنى المراد توصيله لجمهرة النظارة.
وذهب جان لوي بارو إلى ابعد من هذا حين أكد على “إن جعبة ممثل البانتومايم مليئة بأصول الحركة ومفهوماتها المباشرة التي تصل إلى الجمهور المتفرج دون حوار”.

اللغة الإيمائية الجديدة بكل هجائيتها تعد لغة غير مألوفة حتى يتعود المشاهد عليها فتتحول عنده إلى لغة مألوفة في الوقت الذي ينبغي فيه أن يدرك بشكل عام أن هذه اللغة غير قائمة على الحركة حسب بل هي قائمة على الفعل في أساسها وجوهرها. يقول د. عوني كرومي في هذا المجال عن المشاهد:
“يجب أن يألف لغة الحركة كما يألف الكلمات لأن التمثيل الإيمائي هو فن الصمت والحركة، فن الفعل ذاته والإحساس، فهو فن مرتبط بحياة الإنسان”
وهذا هو عين ما أكد عليه مارسيل مارسو حين قال إن “التمثيل الإيمائي ليس لغة الحركة فحسب بل هو لغة الفعل أيضاً”.

وبناء على ما جاء في قول مارسيل مارسو ود. عوني كرومي من أن الفن الإيمائي هو فن الفعل يمكننا القول إن هذا المسرح معني بالفعل من بداية المسرحية إلى آخرها. فالفعل يقوم على الحركة والحركة تبنى على رغبة أو هدف محرك لها لإشباعها أو الوصول إلى عمقها الداخلي. وهنا ينبغي التفريق بين الفعلين الصامت والصائت لأن الصمت على خشبة المسرح ليس صمتاً حقيقياً واقعياً بل هو صمت مبتكر خاضع للدرس والتمحيص والتعديل والانتقاء، متضمن على معنى أو فكرة يراد إيصالها للمتلقي بعد تدريب مسامع المتلقي على سماع هذه اللغة الصورية، وأقول صورية لأن أبجديتها تشتغل على الحركة كقانون مركزي يتحكم بالمعنى وما وراء المعنى.

الحركة إذن مفردة من مفردات الفعل بمجموعها تشكل صورة له ومن مجموع الأفعال كلها يتشكل المعنى العام للعرض المسرحي في (البانتومايم)، أو النص المكتوب في (المسرحيات الصوامت) وثمة فرق واضح بينهما فممثل البانتومايم كما يذكر د. عوني كرومي يلعب دور المؤلف والممثل في آن واحد “فهو يرسم شخصياته من خلقه وإبداعه” بينما تعتمد المسرحيات الصوامت على الاثنين في آن واحد فثمة من يكتب النص الصامت وهو المؤلف الذي لن يكون بالضرورة مخرجا للعرض الصامت أو ممثلا له، فالعملية المسرحية الصامتة في هذا الجنس الفن-أدبي تعتمد على الكاتب مؤلفاً للنص وعلى المخرج مؤلفاً للعرض وعلى الممثل أو مجموعة الممثلين كمجسدين له، هذا فضلاً عن الفوارق الأخرى التي تم إدراجها في مقدمتنا التنظيرية التي تضمنها كتابنا الموسوم (المجموعة المسرحية الكاملة) الجزء الأول: المسرحيات الصوامت.

لغة الصمت قد تختلف قليلاً أو كثيراً عن لغة الكلام، وسابقاً قيل إن الصمت “فن عظيم من فنون الكلام” ولا ندري إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا القول دقيقاً، فالكلام كما هو معروف لنا يتضمن الصمت أو بالأحرى يتضمن السكوت الذي هو في حقيقة الأمر توقف عن نطق الحروف الصائتة، ولم تفرق القواميس العربية بين الصمت والسكوت فجعلتهما متجاورين. جاء في لسان العرب: أصْمَتَ بمعنى أطال السكوت والتصميت بمعنى التسكيت، وفي الحديث: أنَّ امرأة حَجَّتْ مُصْمِتةً أي ساكتةً لا تتكلم. ومع هذا كله فالصمت في المسرح هو غيره في الحياة الطبيعية لأنه ينطوي على لغة خاصة مستقلة من ألفها إلى يائها

فهو صمت مقصود يتضمن معنى أعمق من مجرد كونه سكوتاً أو إجابة ساكتة عن سؤال لا يتوافق مع رغبة المجيب. بهذه اللغة الجديدة المحدثة يمكن بناء نص صامت محدث قائم على فكرة كبيرة أو قصة بحبكة متقنة تجعله قادراً على استيعاب هموم الإنسان والتعبير عن مشاكله الداخلية والخارجية دون اللجوء إلى الكلمة المنطوقة، وهذه ميزة صوامتية خالصة تماماً.

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى