شهر للجهاد بالقرآن
رمضان الكريم هو الشهر الذي أنزل الله – تعالى – فيه كتابه الحكيم؛ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
والقرآن الكريم هو أساس الجهاد الكبير المستمر؛ الجهاد بالكلمة ؛ حيث أمر الله – تعالى – رسوله – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين معه بأن يجاهدوا الكفار بالقرآن الكريم جهاداً كبيراً ؛ أمرهم بذلك وهم مضطهَدون بمكة منهيون عن القتال بالسيف ، مأمورون بأن يكفُّوا أيديهم ويقيموا الصلاة.
أنزل الله – تعالى – على رسوله قوله: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(٥٢)} [سورة الفرقان]؛ فأمره بأمرين مهمين؛ علينا أن نتذكرهما ونعمل بهما ولا سيما في هذا الشهر العظيم:
↵ أمره أولاً: بأن لا يطيع الكافرين ؛ لا يطيعهم في أي أمر فيه مخالفة لِما أنزل الله – تعالى – عليه في أمور الإيمان والعبادات والأخلاق والدعوة ومحاولتهم توهين أمره.
↵ وأمره ثانياً: بأن لا يقف عند حدود هذا الموقف السلبي مع عِظَم أهميته ، بل أن يخطو خطوة أخرى : هي جهاد الكفار بالقرآن الكريم جهاداً كبيراً.
والجهاد الكبير كما تقول كتب التفسير: هو الجهاد الجامع لكل مجاهَدة . ونحن ؛ إذ نتحدث في هذا المقال عن الجهاد بالقرآن لا نعني نفي الجهاد بالسيف؛ فقد كانت معركة الإسلام الكبرى في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في رمضان ، وإنما الذي نريد تأكيده هو أنه: إذا كان الجهاد بالسيف قد ينقطع لبعض الوقت ولبعض الأسباب ؛ فإن الجهاد بالكلمة ؛ كلمة الله – تعالى – جهاد مستمر وقد يكون شاقاً ، لكنه جهاد لا بد منه ؛ كان قبل القتال ويكون أثناءه وبعده.
إنه جهاد لا بد منه ؛ لأنه جهاد لا تعلو كلمة الله – تعالى – إلا به.
أريد في هذا المقال أن أُذكِّر الإخوة الصائمين بأمور تتعلق بالجهاد بالقرآن:
↵ أريد أولاً : أن أدعو من كان منهم قادراً على تدبُّر القرآن الكريم وهو يتلوه في هذا الشهر ، أن ينظر في الآيات الكريمة التي يرى فيها إبطالاً لما يراه جديداً من شبهات الكفار والمنافقين وسائر أهل الزيغ والضلال ، ولما يراه فيها من كشفٍ لدوافعهم الخبيثة ، وبيانٍ لطُرُقهم في نشر باطلهم ، وتحذير للمؤمنين من التأثر بها ؛ أريد لهذا القارئ الكريم أن ينظر في مثل هذه الآيات ، ثم يتسلح بها في مواجهته لأولئك الضالين ، مستعيناً بما كتبه عنها من سبقه من علماء الأمة الفضلاء ، ثم يخوض معركته بالوسائل المهيأة له ؛ فإن كان من أهل الكتابة كتب ، وإن كان من أهل الحديث تحدث ، وإن كان من أصحاب الحوار حاور ، وإن أكرمه الله ؛ فكان من أهل ذلك كله فليجعله كله طريقاً لإعلاء كلمة الله وقمعاً لمن يسعون لإطفاء نور الله ، وليحرص ما أمكنه الحرص على أن ينتشر هذا الحق بكل الوسائل الحديثة المشروعة حتى يطَّلع عليه الناس ؛ فإذا لم يطلع عليه اطلاعاً مباشراً من كان الكلام رداً عليه ، فربما اطلع غيره فبلَّغه إليه.
↵ وأريد ثانياً : أن أُذكِّر من لم يكن مؤهَّلاً لشيء من ذلك أنه ما زالت أمامه أبواب أخرى للجهاد بالقرآن الكريم ؛ من ذلك أن بعض الجماعات والمؤسسات في البلاد الغربية قررت أن تقوم بحملات لتوزيع ترجمات القرآن الكريم ، وهي تطلب المساعدة على ذلك ؛ فإن استطاع أن يساعدها مساعدة مباشرة ، فليفعل ، وإلا فليحُثَّ على مساعدتها من يراه قادراً على ذلك.
وإذا كانت هذه الحملات قد حدثت في البلاد الغربية فربما كانت أمثالها حادثة في غيرها من البلاد ؛ في الصين واليابان والهند وإفريقيا ، وغيرها من أرض الله التي لا يستطيع أهلها الاطلاع المباشر على كتاب الله في لغته العربية التي أنزله الله – تعالى – بها.
هذا عمل جليل ؛ لأن ما يسمى بالمعركة الثقافية ؛ لكسب قلوب الناس ما تزال تزداد احتداماً في عصرنا ؛ فالغرب يستعمل كل ما لديه من وسائل إعلامية ؛ لنشر ثقافته وما يسميه بـ : قِيَمِه ، والمسلمون يتأثرون بهذه الثقافات في معتقداتهم وأفكارهم وأزيائهم وسائر أنواع سلوكهم ، لكن المسلمين أيضاً يؤثِّرون في الغرب وسائر البلاد غير الإسلامية تأثيراً عميقاً مرتكِزاً أساساً على دينهم ، وآية ذلك أن الكثيرين منهم إذا عرفوا الحق لم يأبهوا لما يرونه من دعايات رسمية وغير رسمية ضد الإسلام ، بل آمنوا به كله ؛ فصاروا يُصلُّون ويصومون ويزكُّون ويحجون ؛ فعلى المسلم أن يدخل هذه المعركة إن لم يكن قد دخلها من قَبْل ، وعليه أن يزيد من جهده في شهر الصيام إن كان ممن شرَّفهم الله – تعالى – بدخولها.
إن المسلم الصادق العارف بما يدور في عالمه لا يمكنه أن يقف متفرجاً في هذه المعركة الثقافية التي تدور رحاها بين المسلمين وخصومهم وأعدائهم ؛ لا يمكنه أن يظل متفرجاً وهو يرى أولئك الخصوم لا يكتفون بنشر أباطيلهم ؛ بل يتعدون ذلك إلى تشويه الإسلام تشويهاً نرى آثاره على كثير من الناس في بلادنا وبلادهم.
خذ على سبيل المثال ما قاله صاحب كتاب نُشِر حديثاً بعنوان: (سوء الفهم القاتل) ألَّفَه عضو في الكونغرس الأمريكي وقدَّم له ( بان كي مون ) الأمين العام للأمم المتحدة ، يقول مؤلف الكتاب : إنه دخل عالم واشنطن قبل خمسة وعشرين عاماً (لكتاب صدر في عام 2008م) باعتباره جمهورياً محافظاً ونصرانياً إنجيلياً ، ويقول : كنت في ذلك الوقت أعتقد أن الإسلام دين عنف ، وأن القرآن يدعو إلى إبادة كل من ليس مسلماً ، وأن القرآن والإسلام أمور شريرة ، وأنها أمور إلحادية ؛ مثلها في ذلك مثل الشيوعية التي كان العمل على هزيمتها هو هدف السياسة الخارجية الأمريكية .
إن ما يطلبه الكفار الآن من المسلمين هو عكس ما يأمرهم به دينهم ؛ إنهم يطلبون منهم أن لا يدافعوا عن أراضيهم حتى لو غُزوا في عِقر دارهم ، وإلا كانوا إرهابيين مجرمين ، بل صاروا يقرنون بين الجهاد والإرهاب ؛ فيُسمُّون الكثيرين ممن يصفونهم بالإرهابيين جهاديين ، وصاروا يطلبون من المسلمين أن لا يدافعوا عن دينهم أو يردوا على الكافرين به حتى بالكلمة ، وإلا كانوا متطرفين مفرِّقين للناس غير راضين بالتعايش السلمي معهم ، لكن ديننا يعلِّمنا أن هنالك فَرقاً بين أن تسالم أعداء دينك ، وأن تعترف لهم بباطلهم ؛ فالمطلوب من المسلمين أن يعيشوا في سلام مع من كل من يريد أن يعيش معهم في سلام ، لكن المطلوب منهم في الوقت نفسه أن يقوموا بتبليغ رسالة نبيهم ، وأن يبلِّغوها بالتي هي أحسن.
ولا تَضَاد بين هذا وذاك ؛ إذ إن هنالك فَرقاً بين المسالمة والمداهنة.
ثم لنتذكر أن هذا الجهاد بالقرآن الكريم هو نفسه عبادة من أعظم العبادات ، وأنه ربما كان أبلغ في شهر الصيام والقرآن ؛ حين تصفو النفوس – بإذن الله – وتكون أكثر إخلاصاً ، وأشدَّ حباً للحق ، وأكثر كراهية للباطل ، وأقدر على تدبُّر القرآن الكريم ؛ إنه جهاد يبتغي به المؤمن المخلص إعلاء كلمة الله ، ويعمله ابتغاء رضوانه – سبحانه – إن العمل الجهادي لا يذهب هباءً أبداً ، بل إما أن يهتدي به بعض الضالين ؛ فيكون قد زاد من الخير ، ويكون ذلك خيراً له من حُمْر النَّعَم ، وإما أن يكون فيه قمع لأهل الباطل وتقليل من شرهم ، وإما أن يجتمع الأمران كلاهما ؛ فيكون خيراً على خير.
والمؤمن وإن كان يعلم هذا ، لا يُعلِّق عمله على رؤية هذه النتائج ، بل يكِل أمرها إلى الله – تعالى – كما قال الله – سبحانه – لنبيه – صلى الله عليه وسلم – : {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(٤٦)} [سورة يونس].