تنازلات تنذر بالسقوط ..
يقع لي كثيرا أن أتتبع الحوارات المعروضة في الإعلام الغربي حول موضوعات مجتمعية ساخنة، وأرى أن هذه الحوارات – إذا خلّصها المشاهِد الواعي من معالم الإثارة وظروف الرقابة التي لا ينفك عنها الإعلام الغربي – تلخص الحالة الفكرية والحضارية الراهنة في الغرب.
ويحدث أن يحضر في بعض هذه الحوارات ممثلٌ عن الديانة النصرانية ..
وكم يؤلمني أن أرى رجل الدين النصراني وهو يغلف كلامه بالاعتذار، ويؤثثه بالتنصل، ويعيد ويكرر أن ما يقوله إنما هو معتقده الديني الخاص، وأن حرية الاعتقاد مكفولة للجميع، وأن الحق نسبي؛ وإذا احتاج أن يذكر أمرا غيبيا كالجنة أو الجحيم لم يجزم بمعتقَده مخافة أن يجر عليه استهزاء الحاضرين، بل قدّم لذلك ما يهوّن “سُخفه” في وجهة نظرهم الإلحادية المادية ..
وأسأل نفسي كثيرا:
ما الذي أوصل الديانة النصرانية إلى هذه الذّلة، بعد قرون طويلة من الهيمنة الحضارية في أوروبا؟
♦♦♦♦♦
لقد جربَت النصرانيةُ – قَبلنا – التعاملَ مع الثقافة العلمانية المهيمنة ..
فبعد قرون من الصراع الفكري – السلمي حينًا، والعنيف أحيانا أخرى كثيرة – بدأت النصرانية مسارا طويلا من التحريف التدريجي، بإعادة تأويل النصوص، وتغيير قواعد قراءتها، لتلائم الحداثة الظافرة.
ثم أخيرا، قررت النصرانية – في شقها الكاثوليكي خصوصا – أن تستسلم أمام السيل العلماني الحداثي الجارف، فكان المجمع الفاتيكاني الثاني (وهو المجمع المسكوني الحادي والعشرين) لعام 1962، وفيه وُضعت قرارات “جريئة” غيّرت بها الكنيسة الكاثوليكية إهابها، ليلائم الثقافة العصرية؛ منها على الخصوص: إلغاء نظام الحرمان الكنسي تجاه المذاهب النصرانية الأخرى، والتأكيد على الحرية الدينية وعلى قبول ما في الديانات الأخرى من “صحيح ومقدس“، وعلى أن اليهود ليسوا مسؤولين على “مقتل” المسيح عليه السلام، والتأكيد على حقوق الإنسان الأساسية كما تقررت في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان“، إلى غير ذلك من القرارات.
فهل شفع لها ذلك عند سدنة المعبد العلماني المسيطر على السياسة والمجتمع والإعلام والفن والثقافة، وعلى كل شيء تقريبا؟
كلا ..
بل زاد الاندحار، المفضي للاندثار ..
زحف على النصرانية “الذليلة المعتذرة المنكسرة” سيلُ الحضارة الغربية المتحللة، بطوفان الإباحية والمخدرات والكحول والفن المتجرد من أية قيمة، وبالنمط اليومي المادي المتسارع، وبالداروينية الشاملة للأسرة والمجتمع والعلاقات بين الأفراد والدول، وبالمتَعية المسيطرة على النفوس والمؤدية إلى إلغاء إنسانية الإنسان وتصييره سلعة لتحقيق المتعة ..
كان النصارى يحسبون قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني خطوة للوراء من أجل خطوتين للأمام – كما يقال –، فإذا بهم يجدون أنفسهم قد تراجعوا خطوات كثيرة للوراء، عبّر عنها “البابا بول السادس” في كلمة مشهورة له عام 1972: (كنا نظن أن الشمس ستلمع على تاريخ الكنيسة بعد المجمع. لكن بدلا من الشمس حصلنا على السحب، والعاصفة، والظلام، والبحث، والشك).
وما يزالون في تراجع منذ ذلك الحين ..
♦♦♦♦♦
لِم – يا تُرى – أحدثكم عن النصرانية اليوم؟
لأنك إذا كنت تعتقد أيها المسلم المعتدّ بدينه، أن الإسلام مغاير للنصرانية في الأصول والفروع، وفي صرامة التوحيد، وفي معنى الدين وعلاقته بتأطير الدولة والمجتمع – وأنا أوافقك في هذا الاعتقاد كله – فإن الثقافة العلمانية المهيمنة تراهما شيئا واحدا، وهي تُعدّ للإسلام من المعاملة، ما طبقته مع النصرانية من قبلُ، ونجحت فيه نجاحا باهرا!
أفلا نتعظ؟!
نعم .. هنالك فرق جوهري بين الصورتين، وذلك من جهتَي الضغط الخارجي ومدافعته الداخلية:
فمَن تأمل جهة الضغط الخارجي، أصابه الإحباط والقنوط، حين يرى أننا نعيش اليوم زمن العلمانية الظافرة المتسلطة، بقوة الحديد والنار، والتي لم يعد يقف في وجه سطوتها شيء ..
ومَن تدبر جهة الممانعة والمدافعة، داخله الشعور بالأمل وترقب الفرج؛ فإذا كانت النصرانية قد عرفت قابلية قديمة للعلمنة منذ عصورها “البولسية” الأولى، فإن الإسلام حافظ دائما على صفاء عظيم في مرجعيته وأصوله الكبرى ..
وفي الأحوال كلها، علينا أن نعتبر بما وقع لِمن قبلنا، ولا يحِلّ لنا أن نتكل على فلسفة التنازلات المفاهيمية، فإن ذلك غلط شنيع لن يزيدنا إلا ضعفا وهوانا، أمام هذه الثقافة العلمانية المهيمنة.
♦♦♦♦♦
إن الحضارات لا تقوم بأكاليل الورود، وانحناءات التذلل، وشعارات المهادنة ..
هذه حقيقة تاريخية لا تقبل الجدل ..
فالحضارة النصرانية نفسها لم تقم على تعاليم المسيح – عليه السلام – المهادنة المسالمة، ولكن بتنظير “بولس” وقوة الامبراطور الروماني قسطنطين، ثم بعد ذلك بحروب كثيرة ..
والحضارة العلمانية الحديثة التي أقيمت في الغرب على أنقاض النصرانية، لم تقم أيضا بفلسفة الأنوار ومواثيق حقوق الإنسان في العصر الذهبي الأول للثورة الفرنسية؛ ولكن بما أعقب ذلك من مقصلة الرعب في فرنسا، وحملات نابليون في أوروبا، وبالامبريالية في بقاع العالم، وبحربين عالميتين طاحنتين، وبما سوى ذلك من معالم القوة التي لا زلنا نراها، ونتحمل آثارها ..
إن الثقافة العلمانية المهيمنة لا ترضى بالدين – ولو في حده الأدنى المدجَّن المهجّن الذليل المتنازل عن كل قيمه وثوابته – لأنها تسعى إلى التحرر التام من كل المبادئ المقيِّدة والمرجعيات المتجاوِزة ..
تنازَلْ ما شئت .. فلن تُرضي القوم أبدا ..
فليتنا نعتبر!