النصر أو الشهادة ..
تحكي أنشودة رولان (La chanson de Roland) المشهورة جدا في التراث الشعبي الفرنسي، قصة الحملة العسكرية للملك الفرنسي شارلمان (Charlemagne) على إسبانيا، وكيف أنه – حين استعصت عليه مدينة سرقسطة – أرسل أحد قادته ليفاوض ملكها. لكن هذا القائد جانلون (Ganelon) خان ملكَه لشدة حسده لقائد آخر محبّب إلى شارلمان هو الفارس رولان بطل القصة، فأخبر ملك سرقسطة بأفضل طريقة لمهاجمة مؤخرة الجيش الفرنسي التي يقودها رولان. وهكذا كان .. هاجم الأعداءُ رولان ومن معه، وبعد قتال مرير مات رولان، واستقرت في المخيّلة التراثية الفرنسية بطولتُه، كما استقرت خيانة جانلون!
لست أخصص هذا الحديث لأروي قصة للسمر وتزجية الوقت، ولكن لأطرح السؤال عن السر في كون أشهَر قصيدة في التراث الشعبي الفرنسي خلال القرون الوسطى، تترك بطولات شارلمان وانتصاراته الكثيرة، لتتعلّق بقصة تجمع بين “الهزيمة والتضحية والخيانة”؟!
»»»»»»»
يمكننا بقدح زناد الذهن قليلا أن نجد إجابةً ظاهرة في كون التراث الأدبي والثقافي الأوروبي خلال القرون الوسطى، يتغذى بالأساس من التراث المسيحي. وفي هذا التراث المسيحي، نجد تمجيد فكرة التضحية، إلى أقصى درجات التمجيد، حتى إنهم يزعمون أن المسيح عليه السلام قد قَبِل التعذيب والإهانة والصلب، لتكون تضحيتُه بنفسه تكفيرا لذنوب أمته!
وليس في التراث المسيحي أن المسيح عليه السلام ينتصر على أعدائه، ولا أنه ينتصف منهم، بل هو ضعيف الحيلة أمامهم، يقبل التضحية وتكون تضحيته هذه علامة البطولة والتميز. ثم إن هذه التضحية ما كانت ممكنة إلا بسبب خيانة القريب (وهو في هذه الحالة: يهوذا الإسخريوطي).
فهذا إذن مثلث “الهزيمة والتضحية والخيانة”، كما تعيد إنتاجَه أنشودةُ رولان – بغض النظر عن صحة الواقعة التاريخية. فالبطل ينهزم بسبب الخيانة (وجود الخيانة إذن مهم في تقرير البطولة)، ويقبل التضحيةَ بنفسه لإنقاذ غيره.
ولا أحتاج إلى التذكير، بأن هذا النسق الأسطوري الذي تشبع به التراث المسيحي، ووجد مكانه في الإبداع الأدبي، هو مجرد دعوى بعيدة عن واقع ممارسة الكنيسة خصوصا والنصارى عموما، عبر تاريخهم الممتد على مدى عشرين قرنا تقريبا. ففي الواقع، مارس النصارى جميع أنواع العنف، ولم يعتنوا كثيرا بشهامة التضحية بالنفس، بل سعوا إلى تحقيق الانتصار المادي، فأصابوه أحيانا وأخطؤوه أخرى، كغيرهم من الناس.
»»»»»»»
وفي مقابل النصارى، نجد التراث اليهودي يهتم كثيرا بالجوانب المادية، ويزري بالمعاني الروحية. وأنبياؤهم كانوا يحكمون الناس، ويتولون أمورهم كما يفعل الأمراء (وفي الصحيح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياء”). وكان داود وسليمان عليهما السلام من الملوك الأنبياء، الذين يقاتلون أعداءهم وينتصفون منهم. والبطولةُ اليهودية هي – على سبيل المثال – بطولة شمشون الجبار المشهور بقوته الخارقة، والذي نقل العهد القديم حكايات بطولاته.
فهل البطولة في النصر أم التضحية؟
»»»»»»»
يتوسط الإسلام عند الإجابة على هذا السؤال، بين الديانتين الأخريين. وهذه صورة أخرى من صور التوسط التي تتبع العلماء أفرادَها، والتي تدلّ على أن الإسلام جاء ليصحح ما وقع من الخلل – غلوا أو تفريطا – من أتباع اليهودية والنصرانية، في تصور الكون والحياة والإنسان.
يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]. أي: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الصفتين، إما الغلبة والظفَر بالعدو، وإما قتل عدونا لنا – وهي الشهادة، وما يلحق بها من الفوز بالجنة والرضوان المقيم. وفي السيرة النبوية انتصاراتٌ باهرة، وفيها أيضا هزائم بالمقياس العسكري الصرف – وإن كانت لا تخلو بالمقياس الروحي من دروس وعبر وتضحيات، ورفعة في المقامات.
ومِن الصحابة – وهم الجيل الذي تمثل فيه التطبيق العملي للإسلام – مَن ظفر بأعدائه وعاش حتى أدرك التمكين للدين، ومنهم من عُذّب وقتل قبل مرحلة التمكين.
والإسلام دين واقعي، يراعي اختلاف الأحوال وتغير المقامات، فلا يفرِض على الإنسان ممارسة واحدة لا يمكنه أن يلتزم بها (ولذلك لم يستطع النصارى مثلا من الناحية العملية، الالتزامَ بالمبادئ المثالية للتضحية، وإدارة الوجه عند اللطم ليقع اللطم على الخد الآخر!). فالسعي للنصر مطلوب عند التفوق المادي، والعمل لأجل الشهادة محمود في مقام الاستضعاف.
ونحن اليوم في مقام الاستضعاف، فنحتاج إلى إحياء معاني التضحية والشهادة أيضا، وألا نتعلق فقط بمعاني النصر المادي، بحيث تنتكس النفوس إن لم تحصّله!
ثم من وراء ذلك: مَن حرِص على الموت وُهبت له الحياة!
ومن وطّن النفس على الشهادة، نال النصر من حيث لا يحتسب ..