جدلية الدين في الفكر الغربي الحديث.. الوضعية والدين البديل (3-3)
لما كان الإنسان كيانا مركبا متجاوزا لأبعاده المادية الطبيعية، كانت الفكرة الأساسية التي بقيت ثابتة وكامنة على حد تعبير الشاعر الإنجليزي ديفيد جاسكوين “David Gascoyne” هي أن طبيعته لا تتحمل مطلقا الحرمان من البعد الروحي والميتافيزيقي الديني[1]، ولما كان الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بمعبوده، فإن المتدين كما قال غوستاف ليس هو الذي يعبد إلها[2] بل متى أسلم الإنسان عقله وإرادته وما فيه من حماسة لخدمة مبدأ أو ذات جعلها غاية مقصودة ومرمى أفكاره وأقواله فهو دائن بما توجه إليه.
فهذا التعطش الروحي للدين، والحاجة الأنطولوجية للتدين، ستحتم على أوجست كونت في أواخر حياته البحث عن سبل لإروائها بعيدا عن العقيدة الإلهية، فعصر العلم يتوق إلى دين بديل يوائم المرحلة التي وصل إليها العقل البشري، لذلك يرى كونت أنه “إذا أردنا تحقيق مجتمع يسوده النظام من أجل التقدم، فيجب أن تنمى لديه، وإلى أقصى حد ديانة ملائمة”[3].
فكونت لا ينكر حاجة المجتمع إلى الدين لكنه يرفض الشكل الميتافيزيقي له، وفي هذا السياق يقول وليام كلي رايت: ” كان من المستحيل بالنسبة له أن يقبل وجود الله من حيث إنه فاعلية موجودة وراء الظواهر التي تكون قوانينها من مهمة العلوم الوضعية أن تسوغها، ومن مهمة الفلسفة الوضعية أن تفسرها وتوحدها”[4]. فإذا كان يستحيل على كونت القبول بدين ميتافيزيقي، فما هو إذن الدين الذي يجب أن تتوجه له البشرية؟ أو بتعبير آخر هل من بديل في الوضعية الكونتية للعقيدة الإلهية؟ وما هي أشكال التدين التي صاغها كونت في دينه الجديد؟
“الحب مبدأ والنظام قاعدة والتقدم هدف”[5] هكذا كان شعار الدين البديل الذي صاغه أوجست كونت للبشرية، وسماه بالدين “الإنسانية” مقابل الدين الإلهي، فالإنسانية هي الإله أو “الموجود الأعظم”[6] الذي تتوجه له البشرية بالولاء والتقديس، والكائن الأسمى الذي ” يسمو بنا عن أنفسنا، ويضيف إلى ما عندنا من تعاطف قدرا غامضا من الأثرة “[7]،لكن من هو هذا الكائن الأعظم الذي تدين به الوضعية؟
إن الكائن الأعظم في الإنسانية هو مجموع الأفراد الذين ساهموا في الماضي ويساهمون في الحاضر وسيساهمون في المستقبل في تقدم المجتمع البشري، وهو ” الموجود الذي يسمو على المكان، والذي تركز فيه جهود الأفراد العابرة المتقلبة، بعد تطهيرها وتنظيمها، والذي تصبح معه هذه الجهود حياة خالدة، وأثرا باقيا “[8]، فالموجود الأسمى لا يطلق إلا على أولئك اللذين أسدلوا خدمة للإنسانية، وعملوا على رقيها،أما من قادتهم نزواتهم وشهواتهم وآثروا أنفسهم على الغير فهم مستبعدون من الإنسانية، ومصيرهم إلى مطاوي النسيان لا الخلود،[9]فلا ينضوي تحت لواء الإنسانية إلا أولئك الأموات الذين بصموا التاريخ بأعمالهم الخالدة التي تتناقلها الأجيال، وتحفزها على بذل الجهد للدخول في الإنسانية واستحقاق الخلود الوضعي.
وهكذا ارتأى أوجست كونت أن الفرد أسير عقيدتان “تتضمن كل منهما الأخرى، وتنم عنهما ضروب تفكريه وسلوكه، وأولاهما أن يقتنع بأنه لم يصبح إنسانا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة إلا بفضل إشراكه في الإنسانية، وذلك لأن ذكاءه، وأخلاقه أشياء اجتماعية بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من قوة،أما العقيدة الثانية فتتضمن معرفته بأن الإنسانية قد تكونت-في بعض نواحيها-مما يساهم به في بنائها، وبأن كل عمل من أعماله رغب أم لم يرغب يؤثر، ويتردد صداه في الحياة الاجتماعية”[10].
إن ما يريد أوجست كونت الإيحاء به من خلال بسط عقيدة دينه الجديد، أن الإنسان لا يتحقق إخلاصه في خدمة الإنسانية، إلا بالعمل على مبدئ الغيرية، وبذل الجهد في خدمة البشرية، وأنه مدين للإنسانية بكل شيء، وبالرخاء المادي الذي يعيش فيه[11]، فهو إن تفكر في أسباب هذا الرخاء فإنه سيصل إلى تقدير جهود الأجيال السابقة الذين ضحو وعملوا كل ما بوسعهم لخير الانسانية، واستمرارها.
وهؤلاء اللذين تمثلوا للعقيدة الإنسانية وعملوا لأجلها هم فقط من “امتازوا بصفات الإنسان حقا. وأضافوا إلى تراث الانسانية بما بذلوا من جهود تتصل بالعقل أو الإرادة الطيبة يعيشون في نفوسنا، ويمثلون فيها أحسن العناصر وأكثرها خلودا لأن تلك العناصر هي التي ستبقى من كياننا عندما يفنى جيلنا، كما أننا سنخلد أيضا بمقدار ما نساهم في زيادة هذا التراث وبمقدار ما نقدم من أعمال نستحق عليها تقدير معاصرينا ومن يخلفونا”[12].
عطفا على ما ذكرناه، يمكن القول أنما يصبو إليه أوجست كونت في دينه الوضعي، هو ربط الإنسان بالإنسانية بدل الإله، وتوجيه العبادة من معبود علوي أسمى إلى معبود أرضي مكون من عظماء خلدهم التاريخ في ذاكرتنا الجمعية عرفانا بما قدموه من خدمة للإنسانية، وهكذا فالدين البديل في رؤيته ليس سوى”ميتافيزيقا متخفية”، ولا يمكن أن نعي هذا التخفي إلا إذا علمنا أن أوجست كونت في نهاية حياته قد اتخذ كتاب التشبه بالمسيح[13] موضوعا لقراءته اليومية، وعمل على صياغة دينه الوضعي عقيدة وعبادة على ضوء ذلك الكتاب.
الدين الإنسانية من التنظير إلى العمل
إذا كان الإيمان والعبادة هما بالذات الأصل في وجود العلاقة الروحية بين الإنسان والإله[14]، فإن الديانة الوضعية لا تخلو من هذه الثنائية التي تتآلف تحت لواء الكائن الأعظم إله الإنسانية المقدس، فكونت لم يترك عقيدته تسبح في فلك التنظير، بل انطلق في بسط أشكال العبادة الوضعية وبناء هيكلها العام، وفيما يلي إجمال لأهم مظاهر العبادة في الديانة الإنسانية:
ترتكز العبادة الوضعية على “عبادة ممثلي النوع الإنساني العظام بوصفهم قديسين”[15]، والتأمل في منجزاتهم الإنسانية، فالصلاة في هذه الديانة لا تعدو عن كونها تفكر في الكائن الأعظم، الذي تتوجه له البشرية في أوقات منتظمة وفي لقاءات عامة وفي خصوصية خلوة الفرد، بدلا من الصلاة لله[16]، فهي ليست عبادة بالمعنى المفهوم في الديانات النظرية الأخرى ولكنها في عرف كونت محاولة للوصول بهذا الموجود الأعظم إلى درجة الكمال المطلق[17]، وفي تصور كونت هذا محاكات للأشكال التعبد الميتافيزيقية، إن لم نقل إنها الميتافيزيقا ذاتها.
والتعبد في الديانة الوضعية ليست نمطا واحدا، ولا كلا تتوجه البشرية فيه إلى أولئك العظماء اللذين خدموا الإنسانية، وإنما هو أنماط مختلفة تتحدد حسب نوع العبادة، التي قسمها كونت إلى عبادة خاصة وأخرى عامة، وفي ذلك يقول أندريه كريسون: ” تكتسب العبادة الوضعية شكلين: أحدهما خاص، والآخر عام، شأنها في ذلك شأن العبادة الكاثوليكية، ولكنها بشكليها ينبغي لها أن تكون مجموعة واسعة من الأعمال التذكرية(…)تذكر الأموات الذين ندين لهم بكل شيء وتذكر الأحياء، والمساعدين الحاليين، وتذكر الذين سيأتون في المستقبل ليتابعوا ما قمنا به من عمل”[18].
فالعبادة الخاصة تكون موجهة للمرأة فهي الملاك المحسوس في مقابل الملائكة الغيبية الحاضرة في الفكر الميتافيزيقي، لذلك “فعلى الرجل أن يرى في المرأة-سواء أكانت أما أو زوجة، أو ابنة، أو أختا-ملاكه الخاص، والمرأة عليها أن ترى أهلها في أمها وزوجها، وابنها وعلى كل واحد أن يقوم بأداء ثلاث صلوات كل يوم: واحدة صباحا، وواحدة ظهرا، وواحدة مساءا”[19]، والصلاة لا تعدو أن تكون كما قلنا تذكرا للمرأة وتأملا في إخلاصها وتفانيها من أجل الإنسانية.
والتوجه الكونتي لتقديس المرأة والإغداق عليها بالعطف والمحبة، يرجع إلى قصة كونت مع عشيقته أو معبودته كلوتيلد دي فو “Clotilde De VOUX” التي سيطرت على عواطفه[20]، فنحت بفكره من الواقعية والعلمية إلى العاطفة، فبعدما كان يوضع العقل في المحل الأول يستكشف قوانين الوجود ويؤثر في العاطفة فيحدث أخلاقًا ومؤسسات اجتماعية، ها هو ذا الآن يرى أن قيمة العقل تنحصر في نتائجه العملية، وأن هذه النتائج تتوقف على الظروف الخارجية في حين أن العاطفة توفر لنا رضًا باطنًا مباشرًا، فيقدم العاطفة إلى المحل الأول ويطلب إليها إنارة العقل[21].
أما العبادة العامة: فتكمن في إقامة أعياد مدنية هدفها إحياء ذكرى كل ما أسهم في جعل الإنسانية هيئة نظام وتقدم، وتكون سانحة للقيام بتظاهرات فنية واسعة، وتحرك في القلوب الحس بالتضامن الاجتماعي[22]، ويكرم على ضوئها قديسو الإنسانية وعظماؤها وفق التقويم الوضعي الذي اقترح كونت كبديل للتقويم المسيحي.
بعد هذا العرض المجمل لدين الإنسانية عقيدة وعبادة، يتضح أن الإنسان مهما حاول الهروب من فكرة الدين وتجاوزها إلا ووقع فيها، أو كما قيل في المثل الفرنسي” فالأشياء كلما تغيرت، بقيت الأمور على ما هي عليه”، فالدين يمكن أن يخترق عقولنا واعتقاداتنا في الوقت الذي نحاول فيه طرده، وهذا عين ما حصل لأوجست كونت حين استبدل الدين الإلهي بالوضعية، وأحل الإنسانية محل الإله، بل واستخدم نسيجا مفاهيميا وطقوسا من صميم الأديان، وحاول جمع البشرية حول إلهه الأعظم (الإنسانية) لإشاعة النظام والحفاظ على تماسك المجتمعات وإحلال السلام فيها باسم الإنسانية عوض الدين.
فالدين بناء على ما جاء ذكره، قوام الإنسانية، وجزء لا يتجزأ من كيان أفرادها، ومحرك فاعل في المجتمعات البشرية، وحتى أولئك اللذين اعتبروه مرحلة تقهقرت وفكرة تآكلت في عصر العلم، ما فتئ بعضهم يصوغ أشكالا جديدة من الدين، متدثرة بدثار الإنسانية كائن الوضعية المقدس، وإله الوضعيين الأعلى.
[1] لماذا الدين ضرورة حتمية، هوستن سميث، ترجمة: سعد رستم، ص(57)
[2] ينظر: روح الاجتماع، غوستاف لبون، ترجمة: أحمد فتحي زغلول، ص(87) بتصرف
[3] تيارات الفكر الفلسفي من العصور الوسطى إلى الفلسفة الحديثة، أندريه كريسون، ص(371)، نقلا عن الأخلاق في المدرسة الوضعية، عائشة علي الخوتاني، ج(1)، ص(161)
[4] تاريخ الفلسفة الحديثة وليام كلي رايت، ترجمة: محمد سيد أحمد، ص(404)
[5] علم الأديان مساهمة في التأسيس، مشيل مسلان، ترجمة: عز الدين عناية، ص(73)
[6] ينظر تاريخ الفلسفة الحديثة، وليام كلي رايت، ترجمة: محمد سيد أحمد، ص(404)
[7] الدين والعلم في الفلسفة المعاصرة، إميل بوترو، ترجمة: أحمد فؤاد الأهواني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (بدون طبعة، بدون تاريخ)، ص(50)
[8] نفسه المرجع، ص(50)
[9] ينظر: فلسفة أوجست كونت، ليفي بريل، ترجمة: محمد قاسم والسيد محمد بدوي، ص(348)
[10] المرجع نفسه، ص(344-345)
[11]ينظر: فلسفة أوجست كونت، ليفي بريل، ترجمة: محمد قاسم والسيد محمد بدوي، ص (345)
[12]الأخلاق في المدرسة الوضعية، عائشة علي الخوتاني، ج(1)، ص(351)
[13] كتاب ديني لم يذكر اسم مؤلفه ” L’imitation de Jésus christ” كتب باللاتينية، وهناك ما يزيد عن 50 ترجمة فرنسية له أشهرها ترجمة كورني ” Corneille” وترجمة الأب لامنيه ” Lammenais” في القرن 18م، يحتوي على أربعة أجزاء مستقلة، وأجزاؤه هي: نصائح من أجل الحياة الروحية، ونصائح من أجل معرفة الذات، عزاء النفس، نداء المتبتل للاتحاد بالله. (ينظر: فلسفة أوجست كونت، ليفي بريل، ترجمة: محمد قاسم والسيد محمد بدوي، ص(351))
[14] ينظر: بؤس الدهرانية، طه عبد الرحمان، ص(105)
[15] مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ح. بنوربي، ترجمة: عبد الرحمان بدوي، ص(15)
[16] تاريخ الفلسفة الحديثة، وليام كلي رايت، ترجمة: محمد سيد أحمدص(404)
[17] الأخلاق في المدرسة الوضعية، ص(170)
[18] تيارات الفكر الفلسفي، أندريه كريسون، ص(373)، نقلا عن الأخلاق في المدرسة الوضعية، عائشة علي الخوتاني، ج(1)،ص(172)
[19] المرجع، السابق، ج(1)، ص(172)
[20] ينظر: العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، إميل بوترو، ترجمة: محمد فؤاد الأهواني، ص(56)
[21] تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، ص (340)
[22] الأخلاق في المدرسة الوضعية، عائشة علي الخوتاني، ج(1)، ص(173)