مكابدة الوصول
هو العيش؛ كنز ناقص كل ليلة، وعارية مستردة ولو بعد حين. وهي الدنيا التي تَلِف الناس في اغتنامها ظفرا. يدوس الطمع جامحا أترابها بظلفٍ خشنٍ مستقوٍ، ويلف الصخب جنباتها دون فيئة من أناة. في هذه البقعة غير المباركة من النفس تتبدل طبائع الأشياء ويفرح كل حزب بما لديه، فتألف النفس الكِبر، ويعرض المرء بعطفيه عُجبا، وينأى بجانبه بطرا ورئاء الناس.
في هذا الغبار المثار تغيم الرؤى ولا يفلح البصر وحده في ترسم معالم الطريق، فيندفع كلٌ نحو لُبانته محموما ولا يبالي أن تصيبه قارعة من عدم أو ندم، أو تحل قريبا من دراه خيبة وحسرة. فقط من كان على ثقة من سلامة وصول؛ فإنه يحمل نفسه على كرهها ويحرق فوق رمضاء السلامة رغائبها طمعا في وصول كريم. وتخففا من أحمال ناءت بكلكلها أكتاد جبابرة طغام. وعَلّل الناقة بالحَدْوِ تسر. اللهم صبرا وظفرا!
بصيرة
ما جالت بصيرة في تضاعيف دنيانا إلا وأدركت أن ثمة أمور بقدرٍ تمور بها الحياة خافية كانت أم ظاهرة. الانبهار بغريبها سيماء البسطاء الذين ضاقت عقولهم وغُل إدراكهم. وأما من رزقه الله حلما وعلما وأناة؛ فهو وحده القادر على أن يستكنه حقائق الأشياء، ويدرك ما أراده الله له من مراميها.
حين يقترب الحدث من الخوارق، ويجئ على غير تراتب ألفه الناس ومردوا عليه؛ ترتاب قلوبهم. وإذا لم تكن لهم ثمة عقول تدرك العلل وتقف خلف حدود ما يفضي إليه التأمل يتلددوا. ويكون طبيعيا جدا منهم أن يسندوا الفعل إلى أقرب ما تقع عليه عقولهم تخرصا وهرطقة، فيسود الجهل ويكثر متبعوه، ويذوي العلم ويستوحش حاملوه. إن للمعرفة الحقة ضريبة حتمية
يدفعها العقلاء قسرا عند من لا خلاق لهم من اللئام المستبدين الأغشام. هذه الضريبة تتمدد معاناة عند الأوفياء بين جثة مظلومة في قبر أو غربة مستوحشة خلف أعواد الحديد.
أفول
حين يفسد الهواء تموت شتلات الوفاء، وينجم النفاق بوجهه الخلاب وببزته اللامعة وأدواته المنمقة، وتكتظ الصورة بزخم مجلجل؛ خشب مسند إلى حائط، وأقوال متقعرة بالغة التنميق (تعجبك أقوالهم) التي تستحث الآذان على السماع وفيكم سماعون لهم. يكثر البهرج ويحل الضياء المصطنع محل ضوء الشمس؛ عتمة.. ولكنها مضيئة، وأدب … ولكنه مكشوف، وفن تعبيري خلاب يتصبب على ظواهر الأشياء. أصباغ تملؤك دهشة وتبقى طلاء. حينها يكثر الكلام – فقط الكلام – عن قيم الوفاء يتغنى الشعراء، وتميل النساء، ويصفق المغيبون، وتوزع الجوائز ويكون نصيب ذوي الأقنعة هو الاوفر. يتضاحكون في وجل ويشحذون هممهم المستعارة لمعارك قادمة قد ألفوها، ثم تكون غواية لها ناسكوها، وناسخوها … ولكل قوم سُنة وإمامها.