أدبقصة

لم أقل شيئاً لأبي

احتوى الليل بعباءته كل شيء، وسبحت القرية في ظلام دامس، ليل حالك يذرع الغرفة بخطى ثقيلة، خوف نادر ينهش صدره. عيناه تلتقطان دبيب القلق، وهو يراقب خوفاً مدمراً يتسلل كلص عبر شقوق الباب الخشبي. دفس أحمد وجهه في صدر أمه، اجتاحته سعادة عارمة، فتخيل أن لبنها سوف يتقطر في فمه كطفل رضيع، وينسكب في حلقه مذاقاً لذيذاً.
كل ثلاثاء يأتي أبي من هناك إلى السوق، أليس كذلك يا أمّي؟
بلى يا ولدي أحمد.
مرت أيام طوال، ولم يُرسل لنا شيئاً كعادته، غداً سأذهب إلى السوق بعد الفترة الصباحية للمدرسة.

تكوّمت على الحصير من جديد. والوحدة تعتصر قلبها. لم تعقب على كلام ولدها لأنها متيقنة أن الرد سيكون مغتصباً. أيقظ عدة تساؤلات في ذهنها، كانت تخفيها عنه، منذ أن غادر زوجها القرية للبحث عن العمل. سرحت الأم حميدة بفكرها مدة من الزمن، تثقب السقف بنظراتها، ضوء قمر رقراق يتسلل عبر شقوق النافذة. فتنسكب خيوطه على جنبات البيت. اهتزّ جسدها، بردت أطرافها، تحولت روحها إلى أشلاء مُبعثرة، فعجزت عن البكاء.

أفكار سوداء تستفزها. تصوّرات غامضة عكرت عليها صفو نومها، تحدث نفسها في هسهسة ميتة: ” ترى أين أنت ياولد البهلولي؟ وماذا حل بك؟ كيف تغيب عنا هذه المدة؟ هل تزوجت هناك بامرأة أخرى؟ لا.لا. ولد البهلولي لا يعملها. من يدري؟ فقد يجمع مالا كثيراً وتزيغ عيناه. بنات المدينة أفاعي يخطفن الرجال من زوجاتهم بسهولة. لا زلت أتذكر جيداً حين قال لي مرة:
صاحب المزرعة يثق فيه، لأنه خبير بأمور الفلاحة، فزاد في أجرته. لما جاء في المرة الأخيرة، أحسست أنه تغير في سلوكه، بدأ ينتقي لغته ويهتم بهندامه. يحلق وجهه كل صباح، ويلطم خديه بعطر يدسه في جيبه. وساوس مدمرة تنهشها بقوة كلما تذكرت كلامه.

طردت كل الأفكار السيئة من دماغها. استجمعت شتات أفكارها، وساد صمت قاتل مدّة من الزمن، تململت في فراشها، واستدارت نحو ولدها محاولة تمديد الحديث، قالت:
والحصة المسائية من المدرسة ؟ ماذا تقول للمعلم؟
أقول له أي شيء. كنت مريضاً. كنت أتعهد أختي الصغيرة لأنها مريضة.
فجأة رمى بالغطاء وانتصب قائماً، بدأ يفكر ملياً ويحك رأسه، سأقول له: إني ذهبت إلي السوق للقاء أبي. إننا نحتاج إلى. وإلى ..
نمْ الآن، واقرأ الفاتحة قبل أن تغمض جفنيك.

داخل الفصل، كان المعلم يلقي درسه بحرارة، والأطفال ينغرسون في الطاولات. لم يشارك أحمد في الدرس كعادته. في بعض الأحيان يختلس المعلم نظراته الثاقبة إليه فتنكسر عيناه على الطاولة. فتخيل أن المعلم يقرأ أسراره من الداخل، ويغوص في أعماقه. ظن أن الزمن قد توقف. والحصة الصباحية للمدرسة قد امتدت أكثر من اللازم، فصعب عليه أن يساير المعلم في شرحه للدرس. فتمنى من أعماق نفسه لو انكمشت عباءة الزمن بسرعة. ودقت الساعة العاشرة . عاد احمد مسرعاً إلى البيت، من خلف الباب يصرخ بصوت عال:
أسرعي يا أمّاه. ناوليني القفة.

انطلق أحمد يسابق الريح نحو سوق القرية رغم أنه لم يتجاوز عشر سنوات. وأشعة الشمس تصفع وجهه، غبار متآكل ينفرج بصعوبة، فتنكسر فتحة عينه. تعثر في كومة تراب، فغزا داخله شعور بهزيمة ما. كلاب تتجاوب في نباحها. صوتها يزيد من دقات قلبه. مشى وضاعف المشي في توجس. صدمه ضجيج خانق من بعيد. سوق مملوء بالناس، أبواق تصدح بكل قواها، أغان شعبية مبتذلة تأتي إلى أذنيه بدون نظام، اختلط عليه الإيقاع. رياح غربية تُغيّب الأنغام الضعيفة، نغم واحد شعبي يسيطر على الفضاء كله: “كولو لمّي . كولو لبُويا.”
ماذا أقول لأمّي إذا لم أجد أبي؟ وماذا أقول لأبي إذا وجدته؟ لا أعرف؟ ولا أدري ما يخبئه الزمان لي. يحدث نفسه وهو يخطو ويخطو. سأقول له: إني أحتاج إلى حذاء أفضل من هذا، مر عام عليه بعدما كان صغيراً ولامعاً، الآن يكسوه الغبار مع شق كبير في جانبه، يحتاج إلى غرز عديدة، لم يستطع إسكافي الدوار بن حمو إصلاحه، يدق المسمار فيعوج، ثم ينتزعه بكماشته، يتحسس الجلد بإبهامه. وأخيراً يفقد الأمل، فينظر إليّ نظرة إشفاق، ويرمى بالحذاء المنكوب في وجهي. سوف أقول له؟
برهة، وجد نفسه أمام باب كبير. فتوهم أن حارس الباب سوف يوقفه، كأن السوق حكر على الكبار، وعلى الأطفال أن يكونوا مصحوبين بآبائهم. قال في نفسه: ويلك. كن رجلا. أين شجاعتك؟

اندسّ مع جماعة إلى السوق في حيطة وحذر، سرح ببصره إلى الأفق الممتد. سلط سهام عينيه على رؤوس بشرية وهي تنغل كالنمل. لم يدر كيف تجمّعت هذه الخلائق، ومتى جاءت إلى هنا. فضاء يئن تحت وطأة الأقدام المكتظة. خيام مصفوفة تلفحها الرياح من كل جانب، غبار يتصاعد ميتاً بين الأجسام. يلامس الوجوه دون هسهسة. سرعان ما يتشتت فوق الرؤوس كلما وجد انفراجاً. أجراس السقائين تتناوب في إيقاعاتها ونغماتها. نداءات الباعة تلعلع في الأبواق، تصدح بكل قواها معلنة عن سلعهم المعروضة، جلبة لا تنقطع تثقب طبلة الأذن.

وقف أحمد مشدوهاً إلى طاولة حلوى، شم رائحتها من بعيد، تلمظ كأنه تذوق شيئاً. مرّر لسانه على شفتيه بعنف، وجد فمه فارغاً من اللعاب، تمتم وقال:
ما جئت هنا للفرجة، جئت للقاء أبي.
يسأل ويسأل، يتيه السؤال بين الألسنة. يموت بين كل الوجوه التي يعرفها. كل الوجوه بدت تتشابه في مخيلته، وجه أبيه لم يغب عن ذاكرته، لا يعرف أين يتجه. دروب السوق مغلقة نهائياً بالأجسام البشرية، يحدق في كل وجه يصطدم به. يصنف العمائم والجلابيب حسب ألوانها، جلباب أبيه لا يخفى عليه، يدقق في القسمات، يهم أن يشد بجلباب أحد الرجال، فما يكاد أن يستدير الرجل بوجهه حتى يمسك يده.
في كل مرة يحاول أن يندسّ بين الجموع، صغر سنه يسمح له بتتبع الفجوات الفارغة، لكنه يجد صعوبة في التطلع إلي الوجوه لقصر قامته، سار في كل الاتجاهات حتى وجد نفسه في جانب السوق شرقاً حيث قل الازدحام وتقلصت البضائع. خطرت له فكرة غريبة وهي أن يتسلق شجرة طويلة عسى أن يمتلك الفضاء كله، لكنه أبعد هذه الفكرة من رأسه. فبقي تائهاً بين خواطره، فتأكد أن الزمن اغتال لحظة اللقاء بأبيه.

خفق قلبه خفوق الخيام الشاحبة. لحظات تقلصت من زمنه الهارب. بسرعة طوى قفته الفارغة بعنف. واتجه نحو الباب الذي دخل منه كأن مارداً ألقى به خارج السوق لا يلوي على شيء. عاد وهو يكرر خلسة في نفسه:
ما قلت لأبي شيئاً، فماذا أقول لأمي؟

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى