معتقدات

المضمون العَلماني في الاتجاه التنويري.. المشروعية السياسية (ج2)

(3) استبطان المضمون العلماني عند التنويريين الإسلاميين

يركز عدد من أولئك الباحثين جهده الفكري والإصلاحي على محاربة الاستبداد، وحكومات التغلب الظالمة، ويركزون في طرحهم لفكرة الديمقراطية كنظام سياسي، على المقابلة بينها وبين حكومة المستبد، وأن الديمقراطية في أسوأ أحوالها ستكون أقل شراً من الاستبداد؛ نظراً لما تتيحه من فضاء للمعارضة وإمكانات لتغيير القوانين[12].

ولذلك يقرر عدد من الباحثين التنويريين أن موجب الدخول في العملية الديمقراطية يقتضي حرمة الانقلاب على خيار الأغلبية، ولو كان هذا الخيار فيه إهدار لتطبيق الشريعة، والاكتفاء بدعوة العامة، بما يؤدي إلى تغيير خيار الأغلبية لصالح الشريعة بعد ذلك.

والواقع أن بناء الشرعية السياسية عند التنويريين متأثر بنفس الفكرة العلمانية التي تجعل الشرعية السياسية للنظام الحاكم مستمدة من تعاقد متبادل بين الأفراد وبين النظام الحاكم يعطيهم النظام الحاكم فيه حقوقهم ولا يتعدى على حرياتهم الفردية مقابل حق الطاعة، دون استحضار لأي مرجعية متجاوزة؛ لأن التأسيس التنويري للنظرية السياسية الغربية كان علمانياً.

ولذلك، لما أخذ التنويريون هذا التصور العلماني لم تكن إقامة كتاب الله في الناس جزءاً من مكونات الشرعية السياسية عند كثير منهم[13]، ومن ثم لم يعدوا النظام الذي اختاره الشعب ونحى فيه الشريعة فاقداً للشرعية السياسية؛ لأنهم سبق وأطروا الشرعية السياسية بنفس الإطار العلماني الذي يراعي فقط الحقوق المدنية للشعب، ما انبنى عليه تصحيحهم لإتيان الديمقراطية بغير الشريعة من جهة الشرعية؛ لأن ذلك لم يخرج عن مقتضى التعاقد، فيبقى هذا النظام المعرض عن الشريعة نظاماً سياسياً شرعياً يُمنع الخروج عليه.. هذا القدر بالضبط هو المضمون العلماني الذي يستبطنه التنويريون في تنظيرهم السياسي.

ثم تورط بعضهم، كعبد الله المالكي، في محاولته الجمع بين هذا التقرير وبين تقريره لإلزامية الشريعة، فقال: إن هذا الطرح منهم إنما هو تقرير للشرعية السياسية لا الدينية، ومثله تصور نواف القديمي أن السلفيين ينزعون الشرعية الدينية فحسب عن الحاكم بغير الشريعة الذي أتت به الديمقراطية[14]، وهذا تورط في العلمانية بلبها ولبابها؛ لأن المتفق عليه بين التيارات الإسلامية أن فصل الدين عن السياسة في المواطن التي نص الوحي على التحامهما فيها، هو عين العلمانية، ومن ثم فلا وجود أصلاً في الرؤية الإسلامية لشيء هو مشروع سياسة غير مشروع دين، وإنما يستقيم هذا على أصول العلمانية بدءاً من الميكافيلية حتى البراجماتية النفعية، والسلفية ترى أن الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة فاقد للشرعية السياسية الدينية وإن أتى به لسدة الحكم اختيار الناس، ولا يثبتون فيما نطق به الوحي سياسة تصح بلا شرع يحكمها.

يقول شيخ الإسلام: «فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافياً في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة».

ويقول: «ثم قول القائل بعد هذا سياسة: إما أن يريد أن الناس يساسون بشريعة الإسلام أم هذه السياسة من غير شريعة الإسلام. فإن قيل بالأول فذلك من الدين وإن قيل بالثاني فهو الخطأ»[15].

وإذا تأملتَ جيداً في صراع التنويريين مع المستبد، ستجد أنهم نزعوا الشرعية السياسية عنه ويجيز بعضهم مصاولته للتغلب عليه عند القدرة، وإذا نظرت للمعاني التي يديرون عليها صراعهم مع المستبد، ستجدها هي نفس دائرة الحقوق المدنية التي تدعو إليها الشريعة ويدعو إليها التنوير العلماني في الوقت نفسه، والدليل على أنهم لا يبنون صراعهم مع المستبد على مظالمه مع تكييف هذه المظالم بمخالفة الشريعة فحسب دون البناء على منظومة الحقوق المدنية؛ أنهم لو فعلوا ذلك لزمهم اعتبار الخيار الشعبي الذي يأتي بغير الشريعة استبدادياً تجب مصاولته لإعراضه عن الشريعة.

وهم لن يفعلوا ذلك، والفارق المؤثر عندهم هو أن تنحية الشريعة ها هنا جاءت بالخيار الشعبي، وهذا يدل دلالة قاطعة على البناء المدني العلماني لمنظومة الحقوق المهدرة والمخالفات الواقعة التي صاولوا المستبد بسببها.

فالذي أفقد المستبد شرعيته السياسية عندهم ليس مخالفته للشريعة، وإنما تضييعه لحقوق وحريات شعبه. والذي أكسب تنحية الشريعة باختيار الشعب الشرعية السياسية عندهم، هو أنها جاءت بالاختيار الشعبي، بما يدل على أن منوط الشرعية السياسية عندهم هو اختيار الشعب، ولذلك فطاعة النظام والقانون الذي أتى به اختيار الشعب طاعة ملزمة عندهم؛ لأنها هي الطرف الثاني من التعاقد الشعبي، ما يفرغ مضمون الشرعية السياسية عندهم من شرط التزام الشريعة، ويجعل أساس نظام الحكم الذي يصح عندهم أساساً مدنياً لا سلطة للشرع عليه، وهو نفس التصور العلماني لنظام الحكم ومصدر الشرعية السياسية.

ومما يدل على استبطانهم للمضمون العلماني أيضاً: أنهم قد استحضروا نصوص الإكراه في الدين والنهي عنه عند رد القول الذي نقرره، وهو وجوب حمل المسلمين على التزام الشرع وعدم اعتبار رضاهم أو اختيارهم في هذا، والحقيقة أن استحضار نصوص الإكراه في الدين في هذا المقام يعني تناقض التنويريين؛ فهم أنفسهم لا يلتزمون به، وإنما أوردوه لتدعيم الرؤية التنويرية الغربية لشرعية السلطة دون أن يتأملوا في النتائج التي ستترتب على الاحتجاج بهذه النصوص؛ فالواقع أن حقيقة إمضاء ما تختاره الأغلبية التصويتية أنه إكراه للأقلية، والأدبيات التنويرية الغربية تنص على أن الأغلبية إنما تمنح سلطة معينة حق الاستخدام الحصري للإكراه والعنف[16]، بل إن مشروعية استخدام الدولة للإكراه والعنف وأثر ذلك على الحريات الفردية، هو أصل النزاع بين الديمقراطية والليبرالية، وهو الباعث على العصيان المدني الذي ينشأ احتجاجاً على إكراهات الأغلبية.

فتبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن إخواننا التنويريين – شعروا أم لم يشعروا – لا يمانعون في الإكراه، وإنما هم فقط يريدون حصره فيما يحصره فيه التنوير العلماني، وهو الأغلبية التصويتية، فمرادهم في الحقيقة ليس منع الإكراه، وإنما حصر الإكراه – تبعاً لمقتضيات الحداثة السياسية – فيمن له الشرعية السياسية، وهو من اختاره الناس، وهذه هي نفس أهداف التنوير العلماني الذي بُني على نزع السلطة من يد الدين وأن تقوم الدولة مقام المطلق الديني وأن تستبدل الأمة المدعومة بمفاهيم السيادة والتمثيل بالدين بحيث تقوم الدولة – الأمة بوظيفة الدين في تحديد المقدس الجماعي عن طريق الناس أنفسهم دون الإحالة إلى وحي متجاوز ملزم.

(4) مثال وإلزام

يشدد كثير من التنويريين النكير على القائلين بطاعة المتغلب وعدم قتاله[17]، وأنت لو سألت القائلين بعدم الخلع عن حجتهم، لوجدت حجتهم ليست أن هذا الحاكم مستوف للشرعية السياسية بدليل أنهم يجيزون عزله بغير قتال، وإنما ستجد مذهبهم متعلق فقط بالقتال؛ بسبب الأخبار المعروفة في منع الخروج، فهم يقولون بعدم القتال لأنه لا يجوز قتاله إلا إن كفر.

عندما تسأل التنويريين: لم تنكرون علينا إذا جوزنا للانقلاب على أغلبية التصويت إذا اختارت تنحية الشرع عند الاستطاعة، ولا تجوزون لنا هذا كما جوزتم الخروج على المستبد؟

لن يخرج جوابهم عن كون المستبد فاقداً للشرعية السياسية بخلاف النظام الديمقراطي الذي اختاره الشعب.

فهنا يقال لهم: كلا النظامين (المستبد والديمقراطي) فاقد للشرعية؛ لأن منوط فقدان الشرعية في المستبد كان تضييعه لأوامر الدين بإقامة الشرع، وهي نفسها الأوامر التي أضاعها النظام الديمقراطي، فكلاهما نظام غير شرعي يجوز الخروج عليه بالقوة عند الاستطاعة، فكل سلطة سياسية لا تقيمُ كتاب الله هي فاقدة للشرعية السياسية فقداناً هو أشد من فقدان المستبد لهذه الشرعية؛ لأن نفس فقدان المستبد للشرعية راجع لعصيانه أمر الله في طريق تولي الحكم؛ فأصل الشرعية هو إقامةُ كتاب الله، ويتفرع عنها فقدان المستبد والأغلبية التصويتية جميعاً للشرعية متى أضاعوا كتاب الله. واتسق هذا في قولنا لاحتفاظنا بإقامة الشريعة كقدر حاكم مقيد للنظام السياسي، واختل الأمر عندكم بسبب ما دخلكم من الخلل العلماني الذي لا يدخل في تصوره السياسي دين أصلاً.

(5) فلماذا إذن كان هذا تأثراً ولم نعده علمانية خالصة؟

الجواب: إنهم يجعلون اختيار الشعب ها هنا اختياراً محرماً مخالفاً للشرع تستحق الأمة عليه العقاب من الله، ولا يجوز التلبس بشيء من تحكيم غير الشريعة من جهتهم؛ فهم لا يجيزون لأنفسهم تولي ولاية اختارهم فيها شعب اختار تنحية الشريعة[18]، بل تجب الدعوة لتغيير هذا النظام بالسبل الديمقراطية، وهذا مخالف للتصور العلماني الذي يخلو أصلاً من تلك الأوصاف الدينية ويعتبر خيار الشعب خياراً مشروعاً ولا سلطة للدين حتى في العقاب الأخروي للأمة، ولا ينيطون المطالبة بتغيير النظام ديمقراطياً لمخالفته شريعة دينية؛ لأن الشريعة الدينية ليس لها محل أصلاً في النظام السياسي كي نطالب بها.

فمحل التأثر العلماني لم يكن نفي الدين عن السياسة كما هي العلمانية الظاهرة، وإنما محله علمانية كامنة حاصلها: منع قدرة الدين بمجرده على نفي المشروعية السياسية عن نظام الحكم، فهو فصل بين الدين والسياسة من جهة إمكان عقوبة السياسي على ترك الدين أو تنحيته وليس فصلاً بين الدين والسياسة بمنع الدين عن أن يكون له سلطة التحريم والتحليل في السياسة[19].

فمحل التأثر العلماني: أن العلماني يجعل حقوق الأفراد وحرياتهم فقط هي القيد الحاكم للسياسي، فمتى أخل بها وجب عقابه بخلع نظامه والانقلاب عليه أو على الأقل نفي المشروعية السياسية عنه.

أما التنويري: فهو يجعل حقوق الأفراد وحرياتهم والدين والشريعة جميعاً، قيداً للحاكم السياسي، ويعاقبه كالعلماني إن أهدر الحقوق والحريات، ويسميه نظاماً مستبداً، لكنه لا يعاقبه بنزع الشرعية السياسية عنه إن أضاع الدين ما دام تضييع الدين جاء مع الحفاظ على الحقوق والحريات، ولا يعده بذلك مستبداً؛ لأن مفهوم الاستبداد عنده كمفهوم الشرعية السياسية مؤطر بالإطار العلماني الذي منوطه الحقوق والحريات وليس مخالفة الشريعة.

الجزء الأول تابع الجزء الثالث

[12] راجع مثلاً: «أشواق الحرية»، لنواف القديمي، نشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[13] وحتى من جعلها من مكونات الشرعية السياسية كالغنوشي لم يلتزم مقتضياتها كما سنوضحه.
[14] «أشواق الحرية» (ص/55)، نشر: الشبكة العربية للأبحاث.
[15] انظر كلامه بتمامه في: «مجموع الفتاوى» (20/391-393).
[16] راجع في هذا المعنى كلام ماكس فيبر عن أسس مشروعية الدولة في: «الدولة» مجموعة نصوص ترجمها: محمد الهلالي وعزيز لزرق، نشر: دار توبقال (ص/36).
[17] انظر مثلاً: «فقه الثورة» (ص/36).
[18] هذا على الأقل ما أخبرني به بعضهم، وسمع غيري كلاماً آخر منهم يخالف هذا؛ لذا أعتقد أن توضيح التنويريين لموقفهم من هذه القضية مهم، وهذه دعوة مني لهم لأن يبينوه.
[19] تنبيه: هذا التقرير الذي يرفع تهمة العلمانية عن التنويريين الإسلاميين هو من جنس عدم تكفير من يرى أن المرتد لا يعاقب، ما دام هذا الذي لا يُكَفِّر مقر معنا بأن الردة كفر، ومن جنس عدم تكفير من يرى أن تارك جنس العمل ليس كافراً ما دام مقراً معنا أنه مذنب معاقب؛ فأقوالهم هذه بدعة وليست كفراً، ولا علاقة لهذا التقرير الذي ذكرته بعدم إكفار من لم يستحل النواقض كما رأيته قد توهمه بعض إخواننا، وإنما يكون هذا من جنس عدم إكفار من لم يستحل النواقض إذا تلبس واحد من هؤلاء بالردة ولم أكفره؛ لأنه يرى الردة كفراً، أو ترك واحد منهم العمل مطلقاً ولم أكفره لمجرد أنه يرى ترك العمل ليس كفراً، أو تلبس واحد منهم بالتشريع الوضعي ولم أكفره أنا لمجرد أنه يعتقد إلزامية الشريعة، فتنبه لهذا فهو دقيق.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى