علم نفس واجتماع

روعة الإحساس

ما أجملَ النَّفس الإنسانية في سَعَتِها ورَحابَتِها، حين تنظر للحياة، وللإنسان، والكون بعينٍ محبَّة، تستقبلهم بابتساماتِ الفَرح، وبراءة المشاعر تشعُّ منها أشعَّة الصَّفاء، والنَّقاء، والصِّدق، وتهبُّ هبوبَ الرِّيح المرسلة، تجود بكرمِ خيرِها، وفَضْلِ إحسانِها، فلا تكدِّرُها الهمومُ فتثقلُ كاهِلََها، ولا تُحْزِنُها الشَّدائد فتقتلُ نَبْعَ إحساسِها، ولا تهزُّها المِِحََن فتهزِمُها، ولا تُضعِفُها الانكسارات فتفشلُ قوَّتُها، بل تظلُّ صامدةً أمام الزَّوابع والعواصف، وشامخةً كشموخَِ البِحار تُفَتِّتُ الصَّخر، والموجُ لا يفترُ يعلو وينزل، وتثورُ فيكون لثورتِها هدير، وتَهْدَأ فيكونُ لهُدوئِها سكونٌ وراحة.

وما أَجْمَلَ النَّفْسَ تَرْتَدي لها في كلِّ مرحلةٍ من مراحِلِ حياتِها رِداءً جديدًا، يناسبُ زَمانََها، ومَكانََها، وأَهْلََها، وواقِعََها، وكأنَّها تُولَدُ مرّات، وأيّامُها كلُّها أعيادٌ وأفراح، ينمو فيها الجسمُ ويَكْبُر، فتَشِبُّ المَعالمُ والأَشكالُ والصُّوَر، وتظلُّ الأرواحُ شفَّافةً ناعِمَة، صافيةً كصفاءِ الماءِ العَذب، لم يُخالِطْه كَدَر، وتظلُّ القلوبُ تَحِنُّ للذِّكريات الجميلة، واللَّحظاتِ الَّتي مَضَت واحْتَفَظت بآثارِ نَقْشِها رَسْمًا يتوهَّج، ورائحة عِطْرِها يفوحُ شذاهُ، فيوقظ في الإحساس  معانٍ رَاقِيَة تُطْرِبُ  القلب فينْشََط، فتعلو الابتسامة والبهجة المُحَيَّا، وتشرقُ كما الشَّمس في بُكورِها وشروقِها.

وما أجمل النَّفس التي تسجِّل تاريخها، وأياماً حافلةً بالأحداث والمواقف والتَّجارب العظيمة، فتؤسِّس حياتها على أرضٍ خِصبة لا تذبلُ أوراقُها، ولا يَنْضُبُ ماءُ غَدِيرِها، ولا تجفُّ أغصانُها، ولا تنقطعُ ثمارُها، فالعُشْبُ فيها يهيجُ ويَخْضََر، والزُّهور تتفتَّح، والسَّاعاتُ تمضي يكسوها الفرح، فيرتدي الإنسانُ لها أثوابََ السَّعادةِ مزركشةً بألوانٍ كألوانِ قُزَح.

والنَّفس لا تدركُ روعةََ هذا الإحساس، إلاَّ حين تَرْقَى بالعقلِ والوجدان، فتتعامل مع الدُّنيا والنَّاس بقِيَمٍ ومبادِئ تحكُمُها، وقوانينَ تضبِطُها، وتتعوَّد على التَّفكير الصَّحيح، والإحساس العميق، والْتِماس الحِكمة من أسرارِ الذَّات، فتبدأ تدرك أنَّ لها قيمةً أكبر وأعظم من اهتماماتِها البسيطة والتَّافِهَة، وتبدأ تفهم وتَعِي بأنَّ ما يجري حولها لا يحدثُ عبثاً ولا بالصُّدفة، بل مقدَّرٌ معلوم، وبحسابٍ وميقات من لدن عليم حكيمٍ خبير.

والنَّفس لا تدركُ روعة هذا الإحساس إلاّ إذا تخلَّصت من شُعورِها بالحزن والكآبة لضياع أشياء أو فَقْد أشخاص لم يعُد لهم وجود، ما دمنا نملك دائما الحقَّ في أن نبدأ من جديد، والحقَّ في أن نُحاسِبَ أنفُسَنا قبل أن يُحاسِبنا الله، والحقَّ في أن نغيِّر من أخلاقِنا، وأفكارِنا، وتصرُّفاتِنا، وعاداتِنا السَّيِّئة..

لنَحْيَا حياةً طيِّبَةً كريمة، تنبضُ بالحَركَة والسَّعْيِ المُنْتِج، وتموجُ بالمشاعرِ الطَّاهِرَة النَّقيَّة، والأحاسيس الرَّقيقة النَّاعِمََة، ونبدأ نَتَعاملُ مع النَّفس الإنسانيَّة كمولودٍ جديد يحتاجُ للرِّعاية والتَّهذيب، والتَّأهيل الذي يليقُ بإنسانيَّتِه وآدميَّتِه، ويناسبُ طموحََه وآمالََه، ويحقِّق أحلامَه في الحياة.

كما نحتاجُ لنُدْرِكَ روعةَ هذا الإحساس إلى أن نُبْحِرَ داخلَ النَّفس الإنسانيَّة، ونَسْبُر أغْوارَها، ونكتَشِف أسرَارَها الجََماليَّة، ونحيطُ بأبعادِها في النَّظََر والرُّؤيَة، كما في التَّفكير، والفَهْم، والإحساس، ونتعرَّفُ على طُرُقِ أدائِها الفَّنِّيَّة والتَّعبيريَّة، ونَسْتَخْدِمُها الاستخدامَ الذي يسمو بها، ويُظْهِرُ براعََةَ ابْتِكارِها وإبداعِها، فتصيرُ العين، والأذن، واللِّسان، واليد، وكلُّ الحَواس والجََوارح عظيمةً، في تسخيرِها لقوّتِها ولنشاطِها ولسائرِ إِمْكاناتِها لخِدْمَةِ الإنسان، وعظيمةً في رَوْعَةِ التَّفكيرِ في الخالق، والذََّات، والإنسان، والحيوان، وكلِّ الكائنات والموجودات، وفي رَوْعَةِ التّوافُق بين طاقةِ الجسم والرُّوح، وبين وظيفةِ العقل والقلب، في تحويلِ الصُّوَر المَحْسوسَة فتصيرُ تتَحرَّك بالذِّهن، لها حوارٌ وحَديث، ولها صوتٌ وحَركَة متجدِّدة.

فتبدو الطَّبيعَةُ في أرضِها، وما تَحمِلُه بين مناكِبِها، وسَمائِها بِكَواكِبِها، ونُجومِها، تتكلَّم وتعبِّر لرائِيها بِلُغةٍ يَفْهَمُها الإنسانُ الذي أدركَ رَوْعَةََ الجَمال، ورَوْعَةََ الإحساس، ورَوْعَةََ التَّدبُّر والتَّفَكُّر فيما حَوْلَه، فصار خالِيًا يُنْصِتُ للبَحْر، وللشَّمس والقََمر والنَّجْم، وللنَّباتِ والشَّجَر، وللعُشْبِ والزَّهَر، وللحََجَر والمََدََر، وللطَّيْرِ والحَيوان، ولكُلِّ الموجودات، في أروعِ نَغَمٍ تجري مقاطِعُه ومخارِجُه فَتُطْرِبُ الأُذُن، فيُخاطِبُها بروحِه وإحساسِه، فيصيرُ النَّموذَج الإنساني الشَّاخِص الحَي، وتصيرُ الطَّبيعة مُجَسَّمةً ومََرْئِيَّة، والتَّعبير بلغةٍ تصويريَّة.

حينها يتحقَّقُ التَّكامُل داخل النَّفس الإنسانيَّة بمجموعِ هذه  الصُّوَر في الفَهْم، والَّتعبير، والأَداء الجََمالي الفَنِّي، فتَفيضُ المَعاني المُؤثِّرة بالخَواطِر المُرْسَلة، وتنمو بالحِسِّ والوِجْدانِ والذِّهْن، مقرونةً بدلالةِ الكلمات، والألفاظ، والعِبارات، والأَلوان، والخُطوط، والظِّلال، وبإيحاءاتِها التَّضمينيَّة والتَّصويريَّة في سياقٍ جميلٍ مُبْهِر، يتدفَّقُ على النَّفس تدفُّقَ السَّيلِ الهادِر، تظهرُ آثارُه وانعكاساتُه على السُّلوكِ الخارجي، فيَهُزُّ كيانَه هزًّا شَديدًا، يُخْرِجُه مِن وَضْعِه الخامِل، ومِن ضيقِه الخانِق والمُتَأزِّم إلى سَعَةِ الدُّنيا ورَحابَتِها، وينتقلُ به من حالتِه النَّفسيَّة القاتِمَة إلى الحالة النَّفسية المُنْشَرِحة.

فالرَّوعةُ في جمالِ النّفس حين يصيرُ كلُّ شيءٍ جميلاً وساحرًا في الإنسان، والطَّبيعة، والصُّوَر المرئيَّة، والألوان البََهِيَّة، والأشكال المُتَناسِقََة، والأداء التَّعبيري..

والرَّوعةُ في الإحساسِ والرُّوحِ التي تُلامِسُها، فتَعرفُ أنَّ لنورِ النَّهارِ دِفْئًا وضِياءً، ومَعاشًا، وكَسْبًا، ولظَلامِ اللَّيل راحةً، وسكينةً، ولِباسًا، وانْتِقالاً بالإنسان من مرحلةِ يقظةِ الفِكْر والحَواس، إلى مرحلةِ النَّوم والاسْتِرخاء استعدادًا لاستقبالِ يومٍ جديد وحياةٍ جديدة.

والرَّوعةُ في جمالِ الفهم، الذي يرى أنَّ من ضروراتِ العَملِ المُنْتِج والمُبْدِع توظيفُ التَّفكير السَّليم.

والرَّوعَةُ في القَلبِ المُبتسم، الذي يُحِسُّ بأنَّ فصولَ السَّنَة كلها ربيع، وأنَّ اللَّونَ الأسودََ ليسَ شُؤْمًا، وأنَّ الظَّلامَ ليس يحملُ كآبة، ولا في الشِّدَّةِ عُسْرًا، ولا في القُبْحِ ذََمامة، فلا عُبوسَ في الحياة، بل في مَنْ يَحْياها عابِساً، لأنَّ حقيقةَ السُّرور تتجلَّى وتزيدُ نماءً واتِّساعاً، في الوقتِ الذي تتجلَّى فيه حقيقةُ الهُموم وتَصْغُرُ مساحتُها في النَّفسِ وتضيقُ حتّى تختفي.

والرَّوعَةُ في انْتِقالِ النَّفسِ مِنْ شُعورٍ عادِيٍّ إلى شعورٍ مُخْتلِف، ومِنْ فَهْمٍ بسيطٍ إلى فََهْمٍ عَظيم، ومِنْ عََمََلٍ تافِهٍ إلى عَمَلٍ له قيمةٌ ومَكانَة، ومِنْ سَعْيٍ إلى سَعْيٍ دَؤوب ، فتصيرُ أيَّامُ التَّعَبِ والكََدْحِ فيها لذَّةٌ للنَّفس، وشُعورُ المرءِ بأنَّه إنسانٌ حقيقِيٌّ لأنَّه يعيشُ معنى عََظََمةَ الجََمال في الإحساسِ بجمالِِ الخََلقِ وإبداعِ الصّانِع، والإحساسِ بجمالِ النَّفسِ الإنسانيَّة الواسِعَة الحُرَّة، المُدْرِكَةِ لحقائقِ الحياةِ وأسرارِ مَعانيها، والتي لا تضيقُ عليها الدُّنيا، لأنَّ الضِّيقَ لا يأتي إلاَّ ممَّن كان له مُحِبًّا صانعًا، وسِرُّ عَظَمةِ النَّفسِ وروعةِ الإحساسِ والفَهْمِ في ابْتِكارِ أسبابِ السَّعادةِ وسطَ زَحْمَةِ المِحَن والشَّدائد، ووسطَ زوبعةِ الفِتَن والشَّهوات.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى