علم نفس واجتماع

التربية: عوائق وحلول

(مقال تمهيدي)
تربية أم تعليف؟

مازالت كلماتها تتردد صدى في مسامعي، ومازالت اللقاءات بأولياء التلاميذ المتعثرين تحصيليا وسلوكيا تتوارد على نفس النسق، وبنفس المحتوى، وإن تباينت العبارات:

(- ما الذي يحتاج إليه كي يكون من الطليعة؟ نحن نتفانى كي نوفر له العيش الكريم، ولا نبخل عليه بشيء).

صدقت، وصدق جل من قبلها ومن بعدها في الحديث عما يبذله الوالدان المعاصران من غال ونفيس لأجل تأمين الحاجيات المادية المتزايدة لأبنائهم، في عصرِ تَغَوُّلِ الاستهلاك، وتوحشِ المادة، وانخراط زخم العرض في تشكيل وعي المستهلك المتلهف المتوجس من ألا يكون من طليعة المستهلكين. فحصر الوالدان كل حاجيات رعاياهما ولخصوها في هاتف نقال آخر صيحة، وحواسيب، ولوحات وألعاب إلكترونية، وأكل وملبس وسفر.

لكن أين حضورهما وفاعليتهما،  وأينهما من الوعي بأن متطلبات أطفالهما ليست لا مادية ولا جسدية فحسب، وإنما لهم من الحاجيات ما يسمو عن اعتبارهم مجرد آلات أو “معلوفات”؟

أينهما من سعة الاطلاع على المستجدات التربوية لأجل مواكبة تربية رعاياهما، ومنحهم السلوكيات والمهارات الملائمة لهم بالضبط؟ ومن القدرة على جرد حاجياتهم بدقة، وعلى التعامل مع العوائق بحنكة وفقا للتغيرات التي يمر بها الطفل في مراحله المتعددة، بل وللتغيرات التي يمر بها المربي نفسه، فيحاولان تصحيح مساراتهما وأفكارهما التربوية، وفقا للمستجدات ولما يحصلان عليه من جديد تثقيف في المجال؟

ما موقعهما من تنشئتهم على الصلابة الداخلية التي ستمكنهم، مستقبلا، من القيام باختياراتهم، سواء منها المجتمعية أو الوجودية، بكل حنكة وجسارة؟

وما مدى حرصهما على إمدادهم بالآليات التي تسهم في تنشئة جيل قادر على الاختيار وعلى تحمل تبعات قراراته، وعلى مواجهة نفسه بالخطأ؟

أينهما من مخاطبة وجدانهم، وأخذ شئونهم الشخصية محمل الجد في كل حين لأجل مساعدتهم على تقوية إدراكهم لوجودهم، وإذكاء روح المسئولية  داخلهم، ومساعدتهم على ترتيب شخصيتهم من الداخل؟

أينهما من تربيتهما بالحب على الحب، وبالاحترام على الاحترام، وبالتقدير على تقدير ذواتهم ومن حولهم؟

أينهما من استثمار جلسات لحوار شفيف لأجل الرد، بحنكة ومن غير تعصب ولا قمع ولا تناقض ولا تمويه ولا تغيير للحقائق، على أسئلة الأطفال واليافعين الشخصية التي تخول نموهم الفكري والثقافي، ومن غير اختزال لكل مادة الحوار، ولكل العملية التعلمية؛ في الحديث عن النتائج الدراسية المحصلة، ودون جعل الأرقام والمقارنات الوسيلة الوحيدة والمثلى لتقييمهم؟

أينهما من إيلاء الاهتمام لنموهم النفسي والوجداني، ولمكتسباتهم لأجل بناء شخصية متوازنة تمتلك من المهارات الحياتية ما ينمي فيها الفاعلية والأداء الإيجابي، وتخول لها القدرة على إخراج جانبها الإنساني، وتكوين علاقات إيجابية مع نفسها، ومع من حولها، ومع الحياة؟

أينهما قبل ذا وذاك من غرس القيم والأخلاق وتنظيم السلوك، وتبسيط شرائع الدين والحث على الامتثال لها في رفق وحزم، ومن وضع الضوابط التي تنظم علاقتهم بخالقهم، وبالمجتمع الذي يعيشون فيه وبأنفسهم؟

أينهما من تقديم نفسيهما قدوة ومثالا يحتدى به، ونموذجا يكرس، من خلال المواقف وردود الأفعال، المفاهيم والأساسيات التي يروجان لها ؟

انشغلا “بالتعليف” وبالماديات والاختيارات الشخصية عن مواكبة عملية التربية،  وانسحقا في براثن الرأسمالية المتسلطة تأمينا لموارد العيش، واقتصر دورهما – في عموم الأمر- على تأمين الماديات فقط في غفلة عن مخاطبة الوجدان، ودون وعي بالبعد المقاصدي لوالديتهما، ودون فهم دقيق لرسالتهما، ولم يأبها بحاجيات النشء الأساسية،  فعوضا حضورهما وفاعليتهما بالتزويد والشحن المادي.

زاد من حدة ذلك؛ إسهام العولمة في تهييئ الانفتاح غير المشروط على  الثقافات المستوردة التي لا تمت لهويتنا بأدنى صلة، وتيسير التشبع بكل وارد في غياب الرقابة والمواكبة والتحصين.

ووُكل النشء إلى نفسه، يصارع –من جهة- الثقافات الدخيلة، والعادات المستوردة التي تصادم الشرع وقواعد المجتمع، ومن جهة حصص الدعم المدرسي التي صارت دأبا قد لا يجد المربي أصلا وقتا للتساؤل عن نجاعتها وعن مدى حاجة طفله لها، ومن جهة تراكم الأنشطة المكبل بها، والتي في الغالب لا تعبر عن ميولاته، وإنما عن رغبات الوالدين المحمومة في تحقيق أحلامهما المنسية في الأبناء، أو قرينة للدلالة على  الترف وعلى الانتماء إلى وسط اجتماعي معين، ومن جهة أخرى، التناقضات الصارخة التي يغرق فيها المجتمع حوله بل قبله الوالدين، دون قدرة المربي على أن يمده بالآليات التي تساعده على فهمها فهما صحيحا يجيب عن تساؤلاته، ويحل الإشكالات التي تصاحبه في كل المراحل،  ويساعده على التفتح وعلى النمو السليم.

قد وفرا لهم فعلا “العيش الكريم”، وأغدقا عليهم من الماديات كل حسب قدرته واستطاعته، واختزلا دورهما في الزج بالأبناء في محاضن تربوية، علها  تحمل عنهم ما عجزوا بل تقاعسوا عن حمله، نفسها هذه المحاضن المحتمى بها، في عمومها؛ قد تشبعت بالبيداغوجيات المستوردة، والمناهج التربوية الدخيلة، دون قدرة على تكييفها مع واقع “المتربي” أو اختيار ما يناسب فقط هويتنا ومرجعيتنا الإثنية والسوسيو ثقافية، وفي أحوال أخرى هي الأكثر ذيوعا، قد تطاولت على هذا الثغر، وتصدت لعملية هي من أكثر العمليات التقويمية حساسية، من غير علم ولا خبرة ولا آليات ولا قدرة على التواصل الإيجابي مع المعنيين. فأكملت من حيث ابتدأ الوالدان، وأدلت بدلوها في طمس معالم شخصية النشء ومرجعيته.

فأنى لهذا الجيل – إلا من رحم الله- ألا يخرج مسخا مشوها يصعب تحديد معالم هويته، وألا تستلبه المستجدات، وألا يتنكر لدينه وأصوله؟؟

وأنى لنا أن نتحدث عن جيل النصر والتمكين ولما يجد نفسه ويتعرف على هويته؟

وهل يفترض أن نكتفي في مقاربة هذه الإشكالية؛ بالبكاء على “الفرادس” المفقودة، والبطولات المسبية، والفجر المشنوق على مقصلة تقليد الآخر، والتشبع بالثقافات المستوردة التي لا تمت لهويتنا بأدنى صلة؟

أم أن دورنا، كل من مكانه، أن يسهم في إيجاد حل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن يستشعر حجم المسئولية المنوطة به لأجل التقويم والإصلاح وتهييئ من سيباهي بهم الرسول صلى الله عليه وسلم باقي الأمم يوم القيامة؟

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى