مراجعات

عن الواجب والمولد وأمور أخرى..

يتحدث المفكر الفرنسي جيل ليبوفتسكي في كتابه “أفول الواجب” عن تطور النظرة إلى الواجب الأخلاقي في الديمقراطيات الغربية المعاصرة. فيذكر أن الحداثة التي قامت على أنقاض الدين الكنسي وضعت الأسس الأولى للأخلاق العلمانية المعاصرة ما بين سنتي 1700 و1950. وامتازت المرحلة بأنها – على الرغم من تحررها من روح الدين – فإنها استلهمت منه بعض رموزه الأساسية، وعلى رأسها فكرة “الواجب”.

ثم يذكر أن هذه المرحلة انقضت، وأن طورا جديدا من علمنة الأخلاق قد بدأ، هو طور “ما بعد الواجب”، يمتاز بسعيه إلى تذويب فكرة الواجب نفسها، باعتبار كونها من البقايا الدينية في الأخلاق المجتمعية العصرية.

يقول ليبوفتسكي: “لأول مرة، يقوم المجتمع بتلطيف الوصايا العليا ونزع مصداقيتها – بدلا من تمجيدها والإشادة بها -، ويحطّ من قيمة المثل الأعلى لنكران الذات عن طريق الإثارة المنهجية للرغبات الآنية، وعشق الأنا، والسعادة الحميمية والمادية. لقد قضت مجتمعاتنا على جميع قيم التضحية، سواء أكان الذي يحركها هو اليوم الآخر أو الغايات الدنيوية؛ ولم تعد إلزامات الواجب المغالية هي التي تغذّي الثقافة اليومية، ولكن الرفاهية وحركية الحقوق الذاتية؛ لم نعد نقرّ بإلزامية أي ارتباط، إلا الارتباط بذواتنا”.

»»»»»

أين نحن من هذا؟
هل نحن معنيون به حقا، أم أننا في جبل يعصمنا من سيل “ما بعد الواجب”؟

ركز معي قليلا لتفهم عني ما أريد بيانه ..

نحن منذ زمن بعيد، صرنا على هامش الأمم، وعالةً على الحضارة. ولذلك فإننا مستورِدون مستهلِكون لكل المنتَجات الحضارية التي يبتدعها الغرب. وكيف لمنتَج “أفول الواجب” أن يخرج من هذه القاعدة؟

نحن إذن – كالعادة – قلدنا الغرب، واستوردنا الفكرة بحذافيرها ..

لكن أبشرك قليلا بأن هنا شيئا جديدا، نختص به عن الغرب. إنه محورية الدين في الوعي المجتمعي والثقافي عندنا.
نعم .. نحن لم نتخلص من الإسلام كما تخلصت أوروبا من الكنيسة، وذلك لأسباب عديدة، لعل على رأسها خصوصية في الإسلام تميزه عن النصرانية التي تحمل بذرة العلمانية منذ قرون.

ولأن الدين حاضر بقوة، فإن “الواجب” المؤثر عندنا في الوعي الفردي والجماعي هو الواجب الديني قبل غيره من الواجبات. (فالواجبات المدنية والوطنية مفروضة مستورَدة، لا يمكنها أن تلامس قلوب الناس إلا من خلال الإكراه القانوني، وهذا الأخير عندنا ضعيف مضطرب بسبب الفساد المستشري في أغلب مؤسسات الدولة).

وإذا كان الأمر كذلك – وهو كذلك فيما أحسب – فـ”أفول الواجب” عندنا، يتشكل – ولا بد – في صورة “أفول الإلزام الديني”. وبعبارة أخرى: على الدين عندنا أن يتخلى عن جميع صور الإلزام والوجوب، إن أراد أن يبقى مكوِّنا أساسيا مقبولا في الثقافة الحاكمة، وإطارا جامعا للتشكيل المجتمعي المعاصر في بلداننا.

وهكذا نصل إلى جواب السؤال عن مقدار علاقتنا بثقافة “ما بعد الواجب”، ويؤهلنا ذلك لفهم أمور كثيرة ..

ولكن ما مظاهر “نزع مخالب الإلزام” عن الدين الإسلامي؟

»»»»»

يريد القائمون على هذه الفكرة أن يكون الإسلام دينا لا يكلف المنتسب إليه أدنى شيء، فهو دين للروحانيات الفردية أو الاحتفاليات الاجتماعية، دون أن يصاحب ذلك أية تكاليف فردية واجبة، ولا شرائع وقوانين ملزمة تؤطر الجماعة والأمة!

يريدون دين الروحانيات المائعة بدلا من التوحيد الصارم ..
ودين “الفولكلور” والاحتفالات بدلا من العبادات والصلوات ..
ودين الرقص والغناء بدلا من الدعوة والجهاد ..
ودين العصير والحلوى بدلا من الفكر والتقوى ..

وخذ مثالَين يتبين بهما المعنى:

أولهما: المولد النبوي، لكن اطمئن فلن أحدثك هنا عن البدعية وما إليها، فلذلك مقام آخر. لكن أريدك أن تتأمل أن أكثر الناس يُقبلون في مجال محبة الحبيب صلى الله عليه وسلم على المُريح غيرِ المكلف من رقص وإنشاد وذكر جماعي ومأكولات ومشروبات، وأن الواجب الصعب المكلّف – كنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ضد شانئيه، وحفظ سنته والالتزام بها والذب عنها- لا يقوم به إلا الأفذاذ، وأغلب الناس عنه غافلون!

والثاني: في ليالي رمضان يعتني أغلب الناس بأمور تدور بين النافلة والعادة الاجتماعية (مثل: الحرص على صلاة التراويح، والاحتفال بليلة السابع والعشرين) لما في ذلك من اليسر وعدم الإلزام (فالتراويح مثلا يمكن التخلف عنها في بعض الأيام، ويمكن أداء بعضها دون إتمام، ويمكن فيها الجلوس بدلا من القيام ..)؛ لكن كثيرا منهم لا يعتني خلال هذه الليالي بأداء صلاة الصبح في وقتها مع الجماعة، لما في ذلك من مشقة الوجوب وكلفة التحتّم!

ويمكنك أن تسترسل في أمثلة كثيرة من هذا القبيل، فيها الحفاظ على العنوان الشرعي، مع تحريف مضمونه نحو فكرة “أفول الواجب”.

»»»»»

أما كيف يكون “نزع الوجوب الديني”؟

فجوابي: يكون بالطريقة المعروفة منذ القديم عند الحاجة إلى تحريف الدين: الرد والإنكار لما يمكن إنكاره من ظنيات الشريعة، والتأويل وإعادة القراءة لما لا يمكن إنكاره من قطعياتها!

الذي تغير هو أن مرجعية المحرّفين كانت بعض الأصول العقلية أو الفلسفية أو الكلامية، فصارت اليوم هي قواعد العلمانية والحداثة الغربية.

ثم لأن الدين المحرّف لا يكون دينا إلا إذا اتفق المنتسبون إليه على أنه دين صحيح، فمن اللازم إخراج المتدينين “المتشددين” عن دائرة الدين، وصب جام الغضب كله عليهم، ونبزهم بأقبح الأوصاف، ليَسلَم للمحرِّفين تمثيلهم للدين الحق! ولذلك تجد عند هؤلاء طاقة هائلة في الإنكار على مخالفيهم، ليتهم يطبقون عشر معشارها في أداء الواجبات الشرعية!

»»»»»

ولنتذكر في الختام: أن النار حفت بالشهوات، وأن الجنة حفّت بالمكاره، وأن ذروة سنام الإسلام: الجهاد في سبيل الله، وأن المجاهدة بجميع صورها هي معيار تحقق عبادة الله سبحانه!

من الجميل أن يرفع الجميع شعار “الرجوع إلى الإسلام هو الحل”. ولكن الأجمل أن يكون المقصود بـ”الإسلام” في هذا الشعار:

الدين الذي كان عليه محمد – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه ..
الدين الذي يرتفع بالإنسان من مهاوي الأنانية والفردانية والخضوع للشهوات، إلى مراقي التكليف والتشريف والتحكم في النزوات ..
دين مجاهدة النفس والشيطان والعدو المحارب .. دين التضحية والصبر والمصابرة .. دين الغربة والثبات على الحق – ولو كان الثبات عليه مشيا على الجمر ..
الدين الذي يكفي الانتساب إليه في تحقيق الوعد بالنصر والتمكين.

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى