الحوار المعرفيلغة

إلا رسول الله

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
كنت قد سئلتُ عن عبارة “إلا رسولَ الله”، فأجبتُ بما معناه:

“لا أرى استعمالها وإن كان مقصود أصحابها حسنا، لأن ظاهرها يقتضي أنه لا بأس بالتعرض لمقدسات أخرى ..”.

ثم أطلعني بعضهم على كلام لأحد العلماء الأفاضل، جزم فيه بصحة العبارة، واستدلّ بأمور من علوم العربية. فاحتاج الأمر مني إلى توضيح، أجعله على محاور:

المحور الأول: عن الحصر والاستثناء

ذكر هذا العالم الفاضل والأخ العزيز، أن هذا التعبير: “لا يعدو أن يكون نوعا من أنواع القصر غرضه الاهتمام الشديد”.

ولي مع هذا وقفة تأمل، وذلك أن العبارة المذكورة فيها أداة استثناء، وليس كل استثناء حصرا كما هو معلوم. بل الحصر في اصطلاح البلاغيين (ويسمى قصرا أيضا)، يكون إذا كان الكلام ناقصا، ومعتمدا على نفي أو شبهه، كما في كلمة الإخلاص.

وظاهر المراد بهذه العبارة باعتبار سياق الواقع الذي ظهرت فيه، هو: “سبّوا كلّ أحد إلا رسول الله”. وذلك أن العبارة قيلت بعد انتشار الرسوم المسيئة لخير البرية – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقام الناس يتنادون بالنصرة الواجبة، مع حمل هذا الشعار.

ومثلها قول القائل “إلا صلاتي”، فإن مقصوده: “أُهملُ كلّ شيء إلا صلاتي”.

والكلام في العبارتين مثبت تام، فلا يكون من صيغ الحصر الاصطلاحي (إلا إن أريد المعنى اللغوي العام، فيصح أن يجعل كل استثناء حصرا بهذا الاعتبار).

المحور الثاني: في بيان المحذوف

ورد في كلام أخينا الشيخ الفاضل قوله: “وأما حذف المستثنى فلا يضر للعلم به ..”.

وفي هذا الكلام نظر، أولا لأن المستثنى مذكور غير محذوف، وإنما المحذوف المستثنى منه (ولعله سهو من الشيخ حفظه الله)، وثانيا: لأن المحذوف هنا هو المسند والمسند إليه معًا، لا المستثنى منه وحده!

فليس البحث في أغراض حذف المستثنى منه، بل في أغراض حذف المسند والمسند إليه معا، سواء أكانا فعلا وفاعلا، أو مبتدأ وخبرا. ومثاله الإتيان بحرف التصديق مجردا، كما في قول القائل: “نعم” جوابا لمن سأل: “أقام فلان؟” أو “أزيدٌ قائم؟”.

والحال أن حذفهما معا، لا يجوز إلا بدليل يدلّ عليهما، ويمنع الالتباس.

وهذا يجرنا إلى المحور الثالث، وهو:

المحور الثالث: بلاغة الحذف

لا يرتاب عالم بالعربية وأساليبها، أن الحذف من أرقى مقامات البلاغة فيها، بل هو من “شجاعة العربية” في اصطلاح ابن جني. لكنه لا يكون إلا عن دليل، وإلا “كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته‏” كما يقول تلميذ الفارسي في خصائصه.

والحذف نوع من الإيجاز، إنما يلائم أهلَ الفطنة والذكاء، وينبو عن مواطن البلادة والغباء. ولذلك، كان الإطناب هو المناسب – في عرف البلاغيين – لخطاب العامة، ولا يصح مخاطبتهم بالإيجاز المفضي إلى الإبهام والتلبيس.

وهذا يذكّرني بأن المجاز المرسل الذي مثّل به الشيخ الفاضل في قول القائل “أنبت الربيعُ البقل”، قد لا يناسب مخاطبة العامة به، إن خيف أن يفهموا منه حقيقة اللفظ. وأستحضر هنا القصة التي نقلها ابن الجوزي، قال: “حكى إسحاق بن إبراهيم قال: حضرت جنازة لبعض القبط، فقال رجل منهم: “من المتوفِّي”، فقلت: “الله”. فضُربت حتى كدت أموت!”. والمقصود التنبيه على التفريق بين مقامات الخطاب، على حسب أحوال المخاطبين. وهل البلاغة إلا ذلك؟!

المحور الرابع: في قوله تعالى (وما محمد إلا رسول)

ذكر الشيخ الكريم قوله تعالى (وما محمد إلا رسول)، تشبيها للعبارة محلِّ البحث بها.

والحق أن الآية المذكورة ليست من من بابة ما نحن فيه، فهذا أسلوب حصر إضافي لا حقيقي، بصيغة النفي والاستثناء، من باب قصر الموصوف على الصفة، وتوجيه معناه: (النبي صلى الله عليه وسلم مقصور على الرسالة، لا يتعداها إلى البراءة من الموت كما ظنه المخاطبون). فيصح أن يكون من باب قصر الإفراد، لأن المخاطبين ظنوا أنه رسول وسالم من الموت، فقصرت الآية الكلام على أحد هذين المعنيين، نفيا للمعنى الآخر. وتحتمل الآية – كالمعهود في آيات القرآن الكريم المعجِز ببلاغته – توجيهات بلاغية أخرى.

فلا حذف في الآية، إلا حذف المستثنى منه على سبيل الاستثناء المفرّغ، المعتمَد في أسلوب الحصر بالنفي والاستثناء. أما عبارتُنا، فالمحذوف منها أكثر من المستثنى منه – كما سبق بيانه!

المحور الخامس: النظر الواقعي

من المقرر عند الأصوليين أن الفتوى في النوازل لا يمكن أن تتجرد عن معرفة الواقع، ليحسن تحقيق المناط.

ودلالة الواقع في هذه النازلة ترشد إلى لَبس شديد عند كثير من المتحدثين بهذه العبارة. وذلك أن العبارة بدأت بعد قضية الرسوم المسيئة في أوروبا – كما سبق ذكره – وواقع الحال أن الصحف والمواقع الغربية طافحةٌ منذ عقود بالإساءات البالغة، بالرسم الكاريكاتوري وبعموم الإبداع الفني وبالطرائف المضحكة وبغير ذلك، للخالق جل جلاله، وللأنبياء عموما – خاصة المسيح عليه السلام – وللملائكة واليوم الآخر والكتب السماوية وغير ذلك من الشعائر. ولولا حرصي على عدم نشر هذه المنكرات والترّهات، لمثّلتُ بأمثلة كثيرة جدا، لا تكاد تنحصر. بل إن الخطاب اليومي المنتشر عند الغربيين، لا يرى غضاضة في ذلك كله، والواقع شاهد!

فتحرّكُ المسلمين في خصوص قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو تحرك محمود مطلوب – يؤكد ما قرّرتُه آنفا في تقدير اللفظ المحذوف، ويؤكد أن اللبس حاصل حقا في أذهان كثير من عامة الناس، بل من بعض خاصتهم؛ وإن كانوا لا يلتزمونه عند التذكير والمناقشة.

وهذه الحركة، مع الشعار المرفوع لها، يقوّي اللبس في أذهان الغربيين أنفسهم، فإنهم يعتقدون منذ قرون أن الإسلام دين محمدي (Religion Mahométane)، وضعه النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأنه مؤلف القرآن، وأن المسلمين لا يؤمنون بغيره من الأنبياء والكتب؛ فلا مقدسَ عندهم إلا نبيهم محمد (صلى الله عليه وسلم)!

وهذه الأصناف من الالتباس والإبهام، تقتضي من الخاصة من العلماء وطلبة العلم وأهل الفكر: التوضيح والبيان، لا الحذف والإيهام.

المحور السادس: تنبيه لا بد منه

بعد تقرير ما سبق، فإنني لا بد أن أذكّر أن هذا كله مندرج في باب التوضيح العلمي الموجه لخاصة طلبة العلم، وأنني لا أرى أن ينشغل عامة الناس بهذا النقاش العلمي – الذي غايةُ المخطئ فيه مخالفةُ الأولى في التعبير – عن الأهم الأجدر بالعناية والحرص، وهو نصرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، بالوسائل المشروعة المتاحة في عصرنا. ومن المعلوم أن عقيم الجدل، المثبطَ عن السعي والعمل، آفة خطيرة يستعاذُ منها.

والله الموفق.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى