أشم رائحة المطر مقدسة تهطل من عينيكِ وهي تدق تراتيل طقوسه المؤلمة على صفحات تاريخ مصلوبة. كل عام تُقبلُ محمّلة بطقوس الرحمة والقلوب مغلقة تهطل، والأزقة خاوية، والصمت يقتل المدينة. صقيع نشيده على ألسنة الأطفال قد ذاب تحت قطراته الدامعة تقطٌعت أوتاره من سنابل القمح وهي تستغيث. اشتعلت جروحنا ناراً في الغربة من شهوة الضياع. تركنا آلامنا تضربها قطرات الموت على ضفاف بردى. فأيّ عقوق تحمل في ظلك أيها المطر وأفواه الحقول مفتّحة للعطش؟ وبأيّ عقوق أتيت وقد غادرتك الخصوبة علنًا؟
خيرك في الشرق ما زال صائماً. انسدل الباب قلقاً بعد أن هجعت الحمائم في المقبرة. تذكرت سجني الذي كان يقبع عند شظايا البيوت المهدّمة. صار الوداع يطرب مع الدموع الحارقة. كلمة الحب تفتتت وأتلفت، بعد أن نام المطر في مدينة الضباب. البوصلة مفقوءة العينين، والدولاب ما زال في دورانه من هذيان البصر ووشم الخطيئة. وما زلنا نلوك المؤامرة على صفحات الغيم في جنح الظلام. الليل يسامر التخاذل، وأطفال شابت وهي تعتكف الألم والجوع. بعد أن أغلق القمر بابه، والنجوم استرخت للرحيل.
أشواك الصبر تمردت بالغرز في أنامل مبتورة، إلا أن رشقاتك يا مطر تطربني، تعانقني بعد أن هدرت نبرة الصمت بترنيمة عام جديد، بعد أن غسلت الصمغ من ذاكرة الليل على اللوحة السنوية، ومسحت قطرات الدم التي تتدحرج من فرار. لثمت وكظمت أفواه الحزن التي تنوح على شفاه الشمس من وشاح اللصوص. هي تستقيل من عام مضى قد فقدت فيه مفتاح الهوية الذي ضاع عبر السنين. يهطل المطر ليغسل ذاكرة الأحزان من تخومها، ليتراقص على ورق التاريخ جبراً بخمرة معتقة من ذلك الماضي الذي ما زال يقرع الجدران الصماء.
يهطل المطر ليمسح عن الأرض جفافها وأحزانها ليطرد غيوم السماء؛ ليمسح غبار البشر؛ ليعيد اخضرار الطمأنينة؛ لتتفتح أزهار المحبة بين أذرع الوطن الذي ننتظره عند أقدام الصحوة.