أدبنثر

في مدينة الضّباب

كنّا نقتنص الحلم من عشّ الليل نرسمه على الورق طيوف شوق وريش عصافير، لكنّه يباغتنا أنّه احترق بينما هو يصارع المطر وضاعت الأمنية بين شقوق الغمام. وفي المدينة كانت وجوهنا بين أكمام الغياب تبحث عن كفّ النسيان فقد ساقها الحنين لمصاحبة أرصفة الطريق بعد أن شرد الأمل من جور ولاتنا، وامتلأت جيوب الخيبة حظوظا.

شوارع المدينة متعبة تمزّقت أثواب الزّهور فيها فنام البستان في الغربة. منازلها تعرّت من الجدران، وقنديل نورها أطفأه الذئاب والكلاب المسعورة. لم يعد في المدينة إلا الضّباب المتراكم في عيون الشمس، وإلا قطيعاً من الأغنام يبحث عن ظلّه قد أضاع صوته الغثاء، ونسي طقوس الدفاع وهو بين الرّجاء والهجاء. بحرها ينفث أمواجه في جسدي دمعاً قد ذاب فيه ملح الضّياع، والحرف فيها وحيدٌ لا يجتمع إلّا مع شكواي قهراً في سِفر الأحزان.

تحت قبّتها الحمراء في سِفر النّزوح نحو مآذن بلال؛ وحدي ألوك المسافات من مزامير الصّمت في أزقّتها الخالية وأنا أمتصّ منها لهيب الشّكوى بشوك اليتم والذكرى. فهل تعود لحبيبتي يد الحدثان تعاقر صفائح الدّجى من رئة الليل؟ وتحتطب من ذاكرة النهار نور الشّمس؟! هل تعود كي تمسح عنها ما علق من ألسنة الزمن الهارب ومن زغب الطين وشحوب الجهات؟ أأبيع المدينة أجراساً تقرعها الأعداء؟! أم أشتري الثريّا فلا تجد من تُخرس بها الأفواه السّوداء؟! أم أعتكف عند أقدام الرصاص صلاةً أن تعيد ما التقمه الزّعماء؟!

حبيبتي قدسيةٌ قلبها يُضخُّ من السّماء. عناقها نورٌ وقبلاتها ضياء، ضفائرها ياقوت وجبينها الإسراء والمعراج، قلبها جمرٌ يحترق عليه كل الأعداء، قامتها لا تنحني، جذورها عذراء، فرعها ثابت ورأسها في السماء. فتهيّئي يا مدينة الضباب لموعدٍ مع طيور أبابيل ترجم أعناق الجبناء ساعة الحمام! وتهيّئي مدينةً تحملها سفينة نوحٍ لبرّ الأمان وإلى حيث يهجع الحمام.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى