أدبقصة

موعد

كان وجهُها ينطق بالأمل ويدُها تعانق يدَه بشدة، وعندما تشابكتْ اليدان فوق المنضدة البيضاء المستديرة تباطأت ارتعاشتهما، كان كأنه يُمنيها بموعد ما، وقد عقدا الاتفاق وحلفا اليمين بابتسامة راضية وبلغة العيون.
لم يحفلا بأحد ولم يلتفتا الي نظرات الأطباء والعاملين بمركز علاج ورعاية المسنين، وماذا لو علق أحدهم بسخرية، أو تطاول آخر بجرأة جارحة على هذه المراهقة التي تأخرت كثيراً جداً.

كانا صامتيْن تعاندُ ابتسامتهما الحالمة كَرْمَشة تجاعيدها، وتصنعُ مع لون شعره الأبيض الفضي لوحة فنية مجهولة العنوان والنسب والمصير. فلا أسئلة كثيرة عن كيف ينتميان الي بعضهما وما الذي جذبَ أحدهما للآخر بدون تاريخ ولا ماض ولا جذور؟ ولا كيف يلتقيان مرضاً على مرض ووهناً على وهن وشيخوخة على شيخوخة، وما الجدوى وما الهدف والي أين المسير؟

كان هناك اللقاء وتوطدتْ العلاقة الصامتة، وتشابكت الأيدي وضحكت العيون. حضرَ ابنه وكان في نهاية العقد الرابع بلحية أنيقة ووجه مُرهق وضمير مُنهك من التفكير. تنتظره زوجته في السيارة في شموخ وتأفف، وقد طلبَ الابنُ من أحد العاملين مساعدته في نقل أبيه المستغرق في نومه الي السيارة، وعندما ناوله بقشيشاً نهَرته زوجته باستعلاء، مُذكرة اياه بالمبلغ الذي يدفعانه شهرياً للمركز.

قالَ بصوت خافت وتأدب أنه أرادَ له النزهة وقليلاً من الترفيه بعيداً عن مناخ المركز، عندما تساءلت الزوجة مُبدية امتعاضها عن جدوى اصطحابه ما دامَ مُستغرقاً في نومه، وهي تشير في خبث الي شقيقة زوجها التي لا تزور أباها ولا تصطحبه في نزهات.
تمني عليها أن تخفض صوتها حتى يهنأ الوالدُ بالراحة قبل موعد الغذاء. وعلى طاولة السفرة أجْلسَ أباه في مكانه القديم في الواجهة، وجلسَ هو الي جوار زوجته في مقابلة شقيقته وزوجها. وضعَ طبقاً أمامَ أبيه.
سألته زوجته عن السبب ما دامَ نائماً لا يستيقظ؟
قالَ ربما استيقظ ليجدَ طبقه أمامه.
أعادتْ الزوجة عامدة ما قالته في السيارة حول تقاعس الشقيقة وزوجها، وعدم قيامهما بواجب زيارة الوالد واصطحابه في نزهة. أنهي الابنُ العراك بصرخة مكتومة بعدَ أن تلقي طلباً بترك البيت المُتنازع عليه وتأنيباً على سوء خلق زوجته، وفوطتين من فوط السفرة على وجهه.

نهضَ بصعوبة وحملَ والدَه المستغرق في نومه بمفرده الي السيارة. في المركز وضعَ والده بمساعدة أحد العاملين على كرسي نقال. وفي منتصف الصالة بجوار مائدة بيضاء مستديرة، التقي بشاب يدفع والدته النائمة وعلي وجهها ابتسامة هادئة.
تركاهما بجوار بعضهما نائمين تماماً وقد ارتختْ يداهما.. وابتسامتهما الغامضة.
قالَ له.. لقد ظلتْ نائمة طوالَ النزهة.
افترقا وشرعَا في الانطلاق بسيارتهما.
توقفا وعادا معاً فجأة وركضا مذعورين الي داخل المركز بعد استدعاء طوارئ.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى