أدبقصة

ذات خريف

تتناثر أوراق شجرة التّين العملاقة، القابعة منذ سنين في باحة الدّار، وصاحب البيت يجلس على كرسيّ هزّاز، تراقب عيناه الأوراق في حركتها، مسترجعا كلام زوجه التي تلحّ عليه كلّ خريف أن يقطع هذه الشّجرة؛ لأنّها لم تعد قادرة على تنظيف السّاحة من حبّات التّين، المتساقطة صيفا، وتستضيف أنواعا عديدة من الحشرات، وخريفا عندما تجري خلف الأوراق، والرّياح تنقلها من زاوية إلى أخرى…

جرّته حبال الذّاكرة إلى أيّام طفولته، حين كانت والدته تجمع حبّات التين؛ لتجفيفها على سطح البيت، بعد تغطيته بالقشّ، وتخاف عليه من الوقوع، حين يعتلي الجذع لقطف الحبّات المختبئة بين أوراق الأغصان العالية، بعدما نجت من مناقير العصافير، فتظلّ واقفة بقلق حتّى ينزل. كان يساعدها أيضا بنشر الحبّات، فيعتلي السّطح على السّلّم الخشبيّ الذي تآكلت أجزاء كثيرة من خشباته؛ كي يحظى برضاها…
وهو في غمرة صعوده سلّم الذّكرى، وإذ بزوجه تخاطبه بصوت عالِ: إلى متى ستبقى هذه التّينة مسبّبة لنا المشاكل، ومرهقة إيّاي؟ فأنا لم أعد شابّة يا أبا خالد.
هزّ برأسه، وضاعفت الهزّة من حركة كرسيّه، وأجابها: اليوم سترتاحين منها. فلكلّ شيء نهاية، ولكلّ المخلوقات خريف.

نزل إلى ساحة الدّار، تأمّل التّينة بتمعّن، ثمّ أمسك بغصن وكسره قبل أن يضع المنشار الكهربائيّ فوق أحد الفروع، فأحس نقاط الحليب التي سالت أرضا دموعا تبكي مأساة التّينة، ثمّ امتزجت بدموعه التي فاضت دون إدراك منه.. واستمرّ في عمليّة القطع؛ لئلّا يحنّ لعلاقته الوطيدة بهذه التّينة، فيتراجع عن قراره وتزداد المشاحنات وَ,..
ها هي ذي التّينة أصبحت ملقاة على الأرض. هل رضيت؟

خاطب زوجه، والعرق تتدحرج حبّاته مرطبة ذرات التّراب التي غذّت شجرة الخير. وفيما أمّ خالد تنظر، وبريق الفرح يشعّ من عينيها شاكرة زوجها على إراحتها وإزالة عبء ثقيل عن كاهلها، مرّت عجوز، ولمّا رأت ما فعلوا بالتّينة وجمت للحظات ثمّ قالت غاضبة: ماذا فعلتم بالتّينة؟ كيف تتجرّؤون على قطع خير هذا البيت؟ هذه التّينة غرسها أحد الصّالحين من أجدادكم، وكانت وصيّته أن تحظى بالعناية، وأن يتصدّق أهل البيت من ثمرها… اللهمّ كُفّ الشّرّ عن هذا البيت، وامنع عنه غضبك بسبب فعلة أهله.!
تمتمت بهذه الكلمات، وأكملت طريقها، فيما ظلّ صدى تلك الكلمات يتردّد في فضاء البيت، فشعر أبو خالد بقشعريرة لم يشعر بمثلها من قبل، ونادى ربّه قائلا: اللهمّ ردّ عنّا فأل هذه الخَرِفَة، وشرّ خزعبلاتها!

لم يعد يطيق النّظر إلى تلك الفروع الملقاة أرضا، فدخل البيت، وأفكاره تروح وتجيء كخطواته التي تباطأت عمّا قبل. تعب لكثرة ما رشقته حجارة الفكر، فعاد إلى كرسيّه، لكنّه لم يستطع النّظر إلى الشّرفة كما اعتاد، فنظر إلى صورة جدّه المعلّقة قبالته وأخذته الأفكار بعيدا؛ مستحضرا صور جدّه حين كان يجلس كلّ صباح صيفيّ، ومجموعة من أهل الحيّ بالقرب من التّينة، وسلّة التّين تدور على الحاضرين.
تُرى هل غرست يداك هذه التّينة، وجئت أنا قاطعا كلّ شيء؟! تسمّرت عيناه في الصّورة، وإذ به يرى حزنا فيهما يردفه غضب لم يسبق أن رآهما من قبل، فأحسّ بجفاف في ريقه، وخشي أن يصبح عاقّا لجدّه، بعدما دعا له وهو مسجّى على فراش الموت بالرّضا والتّوفيق…

أفرغ في جوفه كوبا من الماء، والشّعور بالعطش لا يُطفَأ وهجه، والنّظرات تزيد من قلقه وخوفه.. وبغتة يخترق جدار صمته صوت حفيده معاتبا: لماذا قطعت شجرة التّين يا جدي؟! انظر إلى يدي التي تضاعف عدد حبّات الثآليل فيها. لقد تذكّرت عندما داويت إصبع زميلي في العام الماضي، وسمعتهم يقولون أيضا بأنّها شجرة مباركة فجئتك مهرولا.. لكنّ جدّتي أخبرتني بأنك قطعتها، وجاء صبية الحيّ وجرجروا الفروع والأغصان وأخذوها بعيدا..
لماذا فعلت ذلك؟ لماذا؟!
لم يستطع الإجابة، إذ أحسّ بضيق في صدره، وبعد أن أفلح باسترداد أنفاسه قال: سيكون خيرا، وسنجد حليب التّين للعلاج يا عزيزي. هدّأ من روع الصّبيّ، لكنّه لم يستطع تهدئة مخاوفه… أيعقل أن يكون هذا إنذارا وتذكيرا بأنّ قطع التّينة كان خطئا كبيرا، إضافة إلى ما رأيته من نظرات جدّي؟
اللهمّ الطف بنا، وارضّ عنّا..

مرّ اسبوع دونما حدث يقلق، فاطمأنّ أبو خالد بعد أن عزله الخوف من عاقبة فعلته عن أقرانه وعياله، فقرّر دعوة أبنائه وأحفاده إلى وليمة عن روح جدّه الذي قرأ العتاب والملامة في عينيه.
اقترحت أم خالد أن يجلس الجميع في باحة الدّار التي نظّفتها احتفالا بتخلصها من النّحل، والذّبابّ، والنّمل، والورق المتطاير رغم نسمة الرّياح الخريفيّة الباردة.
وصل الأولاد والأحفاد، وبدوا كخليّة نحل في نشاطهم، وتحضيرهم للوليمة، ثمّ تحلّقوا حول موائد الطّعام، وقبل أن يبدأ البسملة، سأل عن سبب تغيّب ابنه الأصغر أمين، فأخبرته زوجه أنّه سيتأخر بسبب مسافر اتّصل به فجأة؛ ليقلّه إلى إحدى المدن البعيدة.. لا تنتظروه، سيأتي لاحقا ويأكل.

أصوات الملاعق المزعجة تدوّي في فضاء السّاحة، بعدما كانت تنعشه زقزقة العصافير صباحا ومساء، حتّى في الخريف العاري. يأكل أفراد العائلة، ويثنون على أمّ خالد.. لا نكهة لطعام مثل طعام الأمّ. والوالد يأكل دون تعليق على نسبة ملوحة الطّعام. انتهت الوليمة، وأصغر الأبناء لمّا يأت بعد. وفيما قلب الأب يخبط قلقا، وإذ بكنّته تصيح: أمين تعرض لحادث سير، ونقل إلى المستشفى.
هرعت العائلة صوب المستشفى، وبقي هو واجما للحظات، ثمّ تذكّر التّينة، فنظر نحو مكانها، وهاله أن رأى أصلها لا يزال ثابتا في الأرض، فأسرع لإحضار الماء، وجثا على ركبتيه الواهنتين يرويها، ومخاطبا إيّاها بصوت عالٍ: يجب أن تورقي وتثمري.. يجب أن تعود البركة إلى هذا البيت.. يجب…

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى