أدبقصة

اليوم الأسود

صباحا، جاء يتجول بين دروب القرية وأزقتها بعدما غاب عنها مدة من الزمن، ناقوس صغير يتدلى من عنقه على صدره، ويده اليسرى تحمل مبخرة نحاسية يتصاعد منها دخان كثيف، يسير بخطى وئيدة وهو يترنم بتراتيل مبهمة. عندما يهيج تخرج صيحاته مبللة بلعاب يتشتت على لحيته البيضاء.

هب أطفال الحي يتبعونه وهم يصفقون بأيديهم، يتنطعون أمامه. عندما يتوقف يهربون بعيدا عنه، يسوي وقفته، يمد عنقه نحو السماء، تتمدد جلدة عنقه فتكشف عن عروق فارغة من الدم، يشير بعصاه، يسير وهو يمررها على جدران البيوت. النساء تتجنبن طريقه، الأطفال يرمونه بالحجارة وهو لا يبالي.. حدق كثيرا في اللانهائي فصاح بأعلى صوته:

ـــ اسمعوا وافتحوا آذانكم يا عباد الله، الويل لكم يا بشر، إنه قادم، إنه قادم.

وقف الناس أمام أبواب منازلهم. عيون الرجال تتهامس في خفاء، شفاههم تتحاور في صمت.. ذهلوا. غرقوا في عمق حيرة مظلمة، انتفض أحدهم وصرخ في وجه الجماعة:

ـــ ماذا يقول هذا الدجال؟ هيا نقبض عليه ونحاكمه. لا نعرف… هل يتحامق أم يقول الصدق، ربما يخفي شيئا تحت لباسه الفضفاض.

حل فصل الصيف، اشتدت الحرارة، بحث سكان القرية عن الماء ليغتسلوا، لم يعد الماء يجري في الصنابير، جفت الآبار التي كانت تسقيهم. حبسوا قطعان ماشيتهم في الحظائر. يوما عن يوم ترفع الشمس من حرارتها، غزا عرق كثير أجسامهم، تشابكوا مع ملابسهم، خرجوا يبحثون عن ظل يحتمون به. فما عادت الظلال تتمدد، وما عادت الأشجار تحتفظ بأوراقها.

ناموا على جوع، استيقظوا، برزت أشعة الشمس تلامس قمة الجبل المطل على قريتهم، رأوه أسود من بعيد. استغربوا ، تجمعوا يستطلعون، بحدسهم أحسوا أن حركة غريبة تجري في الأعلى، رؤوس أشباح تظهر وتختفي خلف نتوءات الصخور. ذعرت الأطيار، هبطت تحلق فوق رؤوس القوم، كأنها تود اختطافهم.

فجأة بدأ قصف مباغت، رصاص مصبوب على دفعات. المنازل تتهاوى، الأتربة ترتطم بالأرض، الجدران تتلامس، زجاج النوافذ يتطاير، يحموم النيران يتصاعد، بسرعة يصنع سحائب ثقيلة لم تستطع الرياح أن تبدده بسرعة.

ارتبكوا، هرعوا مهطعين يسابقون خطواتهم، أحسوا أن حياتهم قد تمزقت بين أيديهم. لم يحملوا شيئا معهم، تحسسوا قلوبهم، تأكدوا أنها ما زالت تنبض في صدورهم. كلما ابتعدوا عن القرية همد القصف، كلما توقفوا تجدد من ورائهم. يعدون وأيديهم فوق رؤوسهم، الأطفال يتأخرون، تحاول الأمهات أن تساعدهم على الركض أكثر. تشتتوا، تاهوا، لم يعودوا …

مرت بضع سنوات، عادوا… وجدوا مخلوقات غريبة تسكن قريتهم.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى