قال لها العجوز: إنّ لماء البحر ميزاتٍ عجيبة، إذ يقتلع براثن التّفكير، ويزيد في قلبك اليقين، ويعينُك على تحقيق ما تبغين فاذهبي إلى البحر، تأمّلي وتعلّمي، وعدّي ستّ موجات، ومن ماء الموجة السّابعة، اغسلي وجهك، ودعي الماء يبلّل كلّ جسدك؛ ليزيل عنك الشّرور، فتبدأ حياة السّرور.
غزلت بمغزل اللّيل الطّويل أوشحة لفّت بها مجسّمات أفكارها، وشهقات سود أيّامها، وخَيبات جميل أحلامها؛ لتلقيها في أعماق اليمّ وأسعدها وهي في غمرة شرودها أنّ سنونو الفجر قد نبّه حواسّها، التي جرّها غراب الفكر إلى خربة الأوهام؛ مقلّبة أحجارها، فأرجعها إلى عمارة الحاضر، ورغبةِ تزيين جدرانها، وإعلاء سقوفها وحضَرَتها صورة نوارس الأمل التي ستلتقي بها فوق موجات شاطئ البهجة.
باغتها التّردّد أثناء عزمها على مغادرة كُوّة التّعب إلى بوّابة الرّاحة. فقد نسيت الوقت الملائم للقاء الذّات والبحر أفجرًا هو أم عصرًا؟! وقفت على حصى الحيرة، وانتابها شعور بغياب البصيرة المُعينَة على تجاوز الكثير من الأمور الخطيرة! ما العمل؟ فهي لا تستطيع البحث عمّن أسدى لها النّصيحة إنّ شوارع المدينة مزدحمة، ولم تعرف عنه بعد لقائها القصير به، سوى رغبته في تفريغ حمولة صناديق هموم من يرسلهم القدر إلى طريقه، وملئها بياقوت الأحلام، وتسهيل صعوبات الأقدار؛ واعدًا إيّاهم بعدم إفشاء الأسرار.
رست بها فكرة لمعت في عتم الفكر، على شواطئ المساء؛ اعتقادا منها أنّ موج المساء الهائج أكثر ملاءمة لهيجان فكرها. سُرّت لعودة وهج البصيرة، سلطانة فكرها التي تنصاع لومضاتها المثيرة. ستنتظر المساء بتلهّف، بعد قضاء ليلة، دارت في دياجيرها بجناحي الخوف والقلق.
ها هو طائر السّنونو لا يزال حائما حول غرفتها استغربت تواجده، وغياب طائر الدّوري الذي اعتادت إطعامه كلّ فجر بيدها. اقترب من اليد المبسوطة بحذر، التقط حبّة، وعاد بعد هنيهة؛ ليتناول الأخرى. وفي المرّة الثّالثة انتزع الحبّة وقطعةً صغيرة من جلد يدها، وأمسك بمنقاره باللّحم كأنّه يبغي إلى العظم سبيلا. فصرخت متأوّهة، وألقت بالحَبّ بعيدا، فطار مخلّفا خيوط الدّماء المسيلة.
أزفتِ السّاعة، وانشرح الصّدر، فهرولت نحو الشّاطئ؛ لتمدّ فوق الأمواج حين مدّها، بساط رغباتها، وتطرح مع جزْرها صُرَر ممقوتاتها. ركّزت ناظريها على موجة، وفصلتها عمّا تطاردها؛ كي تكون دقيقة في تعداد السّبع الموجات، وانتظرت اقتراب كلّ موجة؛ لتلّف بين طيّاتها ما ترفضه ذاتها. اللهمّ بلّلني بندى السّكينة، وجفّف لي ينابيع القلق والحيرة. تصل الموجات تباعا؛ لتسطر عليها حروف إصرارها في إلقاء كدر الأمور إلى جوف المجهول؛ وطلب الصّفو المأمول
اللّهمّ …
اغرس فيّ يقينا، واقلع منّي الشّك
دثّرني قناعة، واخلع عنّي ثوب الجشع
زدني علما، وانقص من جهلي
اسقني فرحا، وأظمِئ الحزن
أنِرني أملا، وأطفِئ فتيل اليأس
أمطِرني حبّا
وبينا هي تقترب، وتخترق عباب الموجة غاسلة وجهها بماء الحبّ الذي طلبته، وأحسّته، احتضنتها الموجة بقوّة، ولم تشأ إفلاتها، وجرّتها دائرة الاحتضان إلى الأعماق منتشية لكن، اختلطت المشاعر حين لَبِسَها الوجوم بُعيدَ فتح عينيها، ورؤية الماء يكاد يغمرها لفّعها الخوف لحظات، فاستحضرت شريط رغباتها وطلباتها، وحرصها على حياة هانئة! ترى ماذا تفعل والموجة تحاول إبقاءها ضيفة في ديارها، وتهدّد أمنها وكيانها؟!
التفتت نحو الشّاطئ، تراءى لها شيء ما ركّزت النّظر، وإذ بطيف العجوز يسير ببطء، ويتّجه صوبها مادّا عصاه مرّ الوقت عصيبا وهي تمدّ يدها لتتشبّث بعصاه دنا منها مخاطبا إيّاها برويّة:
” لا تدعي سكرة الفرح تدخلك في ديمومة الغيبوبة، وتبعدك عن صحوة الكينونة!”
ألقى بجملته وأكمل المسير. فكّ الخوف قِماطَهُ، فهزّت رأسها، ونفضت عنها خمر الموجة، وتذكّرت أنّها هنا لتتعلّم وَ استردّت أنفاسها، استجمعت قواها، وانطلقت بروحها المفعمة بفرح الصّحوِ، نحو شاطئ الحكمة
ما اجملك وانت تأخذنا لموجة السكينة كي تغسلنا من همومنا ويغشانا اليقين حين تتعلق الحيرة في مناقير السنونو المهاجرة من ذواتنا بكل ما أفسده ازورار الظلم في هذه الدنيا عن يميزنا وعن شمالنا لنخرج من هذا الرماد كالفينيق نارا راهجة تضيء عتمة الحياة ..محبتي لهذا الألق وبتلك البلاغة والمجازر الذي خلقنا به في فجاج حرفك الشاهق