أدبقصة

زخّات المطر

زفرات تتصاعد من أبواق رئتيها، ويُسمع حسيسها، رغم أنّها تبذل جهدا في حبس تلك الزّفرات، ومشية غير متناسقة الخطى، رغم محاولة المشي بثقة واتّزان، لامرأة صوّبت نظرها نحو جبل أمامها، تصرّ على اعتلاء قمّته! سقطت حبّات المطر متناثرة، ثمّ التحمت خيوطا، مكوّنة حبالا تحيطها وتثاقل عليها مشيتها، محاولة إرجاعها. أصرّت على المضيّ قُدما، فتكوّرت حبّات المطر حجارةً ترميها وتأمرها بالعودة. لكنّ إصرارها يزداد وترفض مجرد الالتفات إلى الوراء!

ومع إصرارها يزداد غضب الطّبيعة، الرّيح تشتدّ قوّتها، ودويّها يهزّ أركان المكان، ولكنّ نور البرق المصاحب لمدافع الرّعد يغلّف كلّ الظلمات حولها ويؤنسها، فتتّخذه دليلا رغم خطورته! تتابع المشي وتنفض عنها كلّ ما علق عليها من حبّات المطر، لأنّها لا تريد لهذا المطر بالذات أن يبلّلها قبل وصول القمة. هي تريد مطر القمّة الذي يخلو من كلّ شائبة، أن يرطّبها ويغرقها من رأسها إلى أخمص قدميها، وتريده أن يتدفق داخل مسامات جلدها ليخترق شرايينها!

تصل أسفل الجبل فتجد بوّابة عملاقة، محاط جانباها بأسلاك معدنيّة، تحاول فتحها، فيقوى هوج الرّيح وجنونه، ويدفع بمصراعها صوبها متحديّا! أيقنت أنّ هذا هو برزخ حياتها الذي أرادت عبوره لتصل جنّتها، فأشهرت سلاح الأيمان الذي تتحلّى به ولا يفارقها أنّى توجهّت، لتكسر القفل الذي يحاول الرّيح إحكامه. تنجح وتترك الرّيح يجول ويصول كما يشاء!

انتابها شعور غريب لم تشعر به من قبل وهي تخطو خطوتها الأولى على جبل طموحاتها، أحسّت بالرّاحة، فخلعت نعليها ومشت حافية القدمين، رغم لزوجة المكان وخطر الانزلاق. ها هي رئتاها تشتمّان رائحة مختلفة عمّا عبقتا به ردحا طويلا من الزمن. رائحة تختلف عن روائح الأمكنة التي تعجّ بالناس ومساكنهم، فيتلاشى صوت الزّفير وتتناسق الخطوات. تكمل المسير فتصادف كتلا صخريّة، تعتليها ولا يضايقها الأمر، لأنّها متلهّفة لوصول القمّة في نهاية المسير لتحقيق المبتغى. فجأة، تتوقف عن المسير مذهولة أمام حفرة واسعة ذكّرتها بالحفر التي خلّفتها وراءها، ولا تريد تذكّر معاناة المكوث فيها، فربط الله على قلبها إذ رأت علّوا خلف الحفرة.
اجتازت الحفرة، فانبسطت أسارير وجهها لما أحسّت أنّها مستمرّة في الصعود دون عقبات، حيث شارفت على الوصول. وها هي زخّات المطر التي تبتغيها، والتي أرادت اعتلاء القمّة لأجلها، قد بدأت تغسلها. وهي تريدها أن تبلّل كلّ جسدها حتى ارتواء كل خلاياه لتزيل عنها كلّ ما علق من ذرّات غبار الحياة التي أصبحت طينا. هنا الماء الزّلال، العذب تتجرعه وتغتسل به!

أثناء نشوتها بتحقيق حلمها خفّت غزارة الأمطار، فرأت أكواما متفرّقة من أمتعة لم تحدّد ماهيّتها، فراعها أمرها، بعد أن لفّعتها سكينة المكان وطهر الأمطار بلفاع أحسّته أجنحة الملائكة. حاولت الاقتراب مما رأت فوجدت أمتعة لجحافل جُند قد اعترشوا الأشجار، واتّخذوا من تحتها مساكن ومفارش، واقاموا في المكان ردحا من زمن، وعاثوا فيه فسادا. فأحسّت أنّ جلدها بدأ يرشح الماء البارد الذي بلّله، عرقا ساخنا.

صوّبت نظرها بعيدا، فرأت ثعلبا قد بسط ذراعيه تحت إحدى الأشجار، موجّها نظره إليها. اختلطت عليها المشاعر من قلق واشمئزاز وخوف وغيرها… فلم تعد تحس أنّها على قمة الجبل، فوقفت محتارة، وحولها أكوام من الأمتعة المنفّرة، وضباح الثّعلب يمتزج وعواء الرّيح، ليرتدّ صوت الصّدى المزيج مخترقا قنوات أذنيها اللتين تحاول سدّهما، كي لا تفسد عليهما متعة الإصغاء لموسيقا زخّات المطر، التي عاشتها أثناء طقس التّطهير. ثم أغمضت عينيها فغاب عنها سمعها ونظرها لحظات، لتجد نفسها ترقص رقصة صوفيّة على قمّة الجبل، وتحت زخّات المطر.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى