فلسفة وأخلاق

الباراديغم العلمي الإسلامي.. قيمه الثقافية وخصائصه الإبستيمية (1-3)

المنهج والتنـزيل تحيط بهما رؤية تضع لهما التصور والفهم: فإما غاد إلى منهج قويم يهدي ولا يردي، وتنـزيل سليم يغني ولا يفني، وإما رائح تائه في السبل المسدودة. لذلك يشمل مثلث الرؤية والمنهج والتنـزيل العناصر الأساسية التي تتشكل منها البراديغمات العلمية التي شهدها تاريخ العلوم، ومعرفة كيف تولد ثم تقوى ثم تتلاشى بأزمات تصيب منها الأسس خاصة. ويقتضي ذلك أن نقر بأن للعلم تاريخا مفتوحا لا يمكن الغفلة عنه؛ إذ البراديغمات ليست خالدة، كما أن له تقليدا راسخا لا ينبغي الجنوح عنه؛ إذ لا علم بدون أسس ومناهج وطرق تنـزيل تتوافق عليها الجماعة العلمية. وهذه أم المشكلات التي تواجهنا ونحن نريد التعرف إلى مفهوم البراديغم في تاريخ العلوم عامة، وتاريخ العلوم الإسلامية خاصة. فما المقصود بمفهوم البراديغم في أبحاث فلسفة العلوم؟ وما هي القيم الثقافية المؤطرة للبراديغم العلمي الإسلامي؟ وما الخصائص الإبستيمية الموجهة له؟ وما هي آفاق تجديد التقاليد العلمية للمجتمع العلمي الإسلامي على مستوى الموضوعات والمناهج والأنساق النظرية؟

مفهوم البراديغم في أبحاث فلسفة العلوم

 1. التحديد اللغوي  

ترجع لفظة براديغم إلى الأصل اليوناني paradeigma أي مثال ونموذج، وهو مشتق من لفظ paradeiknunai الذي يدل على فعل أظهر montrer وقارن أو شبه comparer. فيكون البراديغم لغة هو النموذج القياسي أو المثال الكامل الذي ينبغي اتباعه، كما يقال: الرياضيات هي براديغم العلوم. وحوفظ على هذا الاستعمال اللغوي تقريبا في علم اللغة فاستعمل بدلالتين:

الأولى: مرتبطة بقواعد الصرف اللغوي: حيث إن البراديغم هو مجموع الصيغ الصرفية لجذر معين، كصيغ فَعَل ويفعل وفاعل ومفعول… ويقابله لفظ syntagme الدال على التركيب التعبيري.

والثانية: مرتبطة بلسانيات فردينان دو سوسور Ferdinand de Saussure الذي قصد بالبراديغم: طائفة من العناصر ذات الجوانب المتشابهة.

2. التحديد الاصطلاحي

كان طوماس كون [1]Thomas. S. Kuhn أول من استعمل هذا الاصطلاح في كتابه “بنية الثورات العلمية” الذي نشره عام 1962م، وألحق به حاشية تنقيحية عام 1969م، ليدل به على الأطر المفهومية ورؤية العالم عند جماعات علمية متعددة. تبعا له يدل البراديغم على مجموع متماسك من نماذج ومفاهيم ومعارف وفرضيات وقيم مترابطة بدقة.

وهو يرى بأن هذا المفهوم يعتبر أساسيا في فهم خاصية دقيقة في تاريخ العلوم، ألا وهي استبدال إطار مفهومي بآخر عند حدوث ثورة علمية. علما بأن كون استعمل مصطلحات قريبة منه مثل “العلم النموذجي” science exemplaire و”العلم السوي” (أو المعتاد أو القياسي) science normale، والذي يعني به البحث الملتزم بحدود وإطار براديغم معترف به بين الباحثين المتخصصين في مجال علم بذاته. أو بعبارة كون نفسه: عبارة “علم قياسي في هذه الدراسة تعني: البحث الذي رسخ بنيانه على إنجاز أو أكثر من إنجازات الماضي العلمية. وهي إنجازات يعترف مجتمع علمي محدد، ولفترة زمنية، بأنها تشكل الأساس لممارساته العلمية مستقبلا[2].”

والحق أن للبراديغم تعريفات عديدة تتجاوز العشرين تعريفا، وأهمها أن يقال: إن البراديغم هو هيكل يحدد المشاكل والمناهج المشروعة، فيعطي بذلك فعالية كبيرة للبحث؛ لأن اللغة المشتركة تيسر انتشار الأعمال وتوجه البحوث العلمية. فمماذا يتكون هذا الهيكل العام المسمى بالبراديغم إذن؟

3. مكونات البراديغم 

يتكون البراديغم من الأمور الأربعة التالية:

أ. مجموعة من “القوانين والفرضيات والنظريات العلمية، فقوانين الحركة عند نيوتن تمثل جزء من البراديغم النيوتوني.

ب. مجموعة من “المبادئ الميتافيزيقية[3]” مثل فكرة الخلق المستمر في فيزياء ديكارت[4] وفرضية الأثير في فيزياء نيوتن[5].

ج. مجموعة من “التعليمات الديداكتيكية والمنهجية التي توجه العمل العلمي. فالبراديغم النيوتوني، مثلا، يلزم الطالب الباحث بأن تكون نتائج بحثه مطابقة للطبيعة. فتصاغ المناهج العلمية بخطواتها وأسسها، على هذا الأساس، ويتم عرضها في الكراريس المخصصة لمقررات الدراسة والتكوين العلمي.  

د. مجموعة من “التقنيات لتطوير النظرية العلمية التي تبنيها الجماعة العلمية، مثل تقنيات الرصد في علم الفلك، مثلا.

فإذا كان مفهوم البراديغم ضروريا لتفسير تلك الخاصية الدقيقة في تاريخ العلوم، المتمثلة في استبدال إطار مفهومي بآخر عند حدوث “ثورة علمية، فإن مفهوم البراديغم لا ينفصل عن مفاهيم التغير والثورة أو ما يعرف بتحول البراديغم.

4. تحول البراديغم

يحيل مفهموم تحول البراديغم changement de paradigme إلى تجديد عام في المعارف الأساسية وثورة شاملة في المفاهيم.

وتحول إنجازات علمية في تاريخ العلم إلى براديغمات يتطلب تميزها بخاصيتين هما[6]:

أ. أن تكون عظيمة الشأن وغير مسبوقة.

ب. وأن تكون مفتوحة رحبة تفتح الباب أمام جميع أنواع المشكلات لكي يتولى حلها المشتغلون بالعلم بمفهومه الجديد.

فقد اعتقد كون أنه خلال مجرى النشاط العلمي العادي يشتغل الباحثون ضمن نفس البراديغم. أو قل: ضمن نفس تقاليد العلم السوي، فتمضي أنماط التواصل والاشتغال العلمي دون أي عائق، إلى أن تبرز بعض الأمور الشاذة، أو تقترح نظرية جديدة أو نموذج جديد فتحدث أزمة في أسس ذلك العلم السوي لعجزه عن تفسير تلك الأمور الشاذة. فتتحول النماذج المقترحة الجديدة إلى علم سوي جديد. فهذه الجدة تلزم الباحثين بفهم المفاهيم التقليدية بطريقة مختلفة، وإحلال فرضيات جديدة محل القديمة.

5. تطور مفهوم البراديغم وأنماط استعماله في العلوم الأخرى

شاع استعمال هذا المصطلح بعد كون، وقفز من مجال تاريخ العلوم إلى مجالات عديدة، كالبرمجة العصبية اللغوية، وحملت عشرات الكتب باللغات العديدة عناوين تتضمن لفظ البراديغم، وصارت غالبا ما تتداوله بمعنى modèle؛ أي نموذج، أو قل: “طريقة في رؤية الأمور” Weltanschauung، لا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق الذي وضعه كون. وصار تحول البراديغم يعني: “تحولا في طريقة رؤية الأمور”. وذهب الناس في تفسير هذا المعنى الجديد مذاهب شتى:

فقد طور إيمر لاكاتوس Imre Lakatos مكونات مفهوم البراديغم عند كون عبر اصطلاح برنامج البحث programme de recherche.

أما إدغار موران Edgar Morin فيقول بأننا اليوم في بداية تكوين براديغم للتعقد هو نفسه مرحلة ضرورية لتكوين علم البراديغم paradigmatolotgie الذي لا يهتم بالمهمة الفردية لمفكر ما، ولكن بكتاب تاريخي لتجمع الأفكار[7].

وقد استعمل المصطلح في العلوم الاجتماعية بمعنيين غاليا: (أحدهما) مجموع الخبرات والاعتقادات والقيم التي تؤثر على طريقة الفرد في إدراك الواقع والتصرف تبعا لهذا الإدراك. و(الثاني) شبكة القراءة التي تسمح بتفسير المعطيات بواسطة أدواتها النظرية الخاصة. بهذا المعنى نتحدث عن براديغم “صراع الطبقات” عند كارل ماركس K. Marx، وبراديغم “رأس المال الاجتماعي” عند بيير بورديو Pierre Bpurdieu ونحو ذلك…

كما استعمل البراديغم في ميدان الاقتصاد، فتحدث كارلوتا بيريز Carlota Perez وكريستوفر فيمان Christopher Freeman عن البراديغمات التقنية الاقتصادية ليفسرا تتابع الأدوار الاقتصادية الطويلة[8]. ودخل إلى مجال المقاولات في العقد التاسع من القرن الماضي، وتم ربطه بالفعل لا بالنظر فقط، ليبين فعاليته في سوق العمل ومستقبله، مثل جويل باركر، حيث يبين أهمية خلق براديغم جديد في نجاح الشركات الكبرى أو تراجعها[9].

إن التحويل الأخطر الذي حدث للمفهوم هو القول بأن كل ما يكوّن البراديغم يتميز بالنسبية والذاتية.

هذا التحويل يجعل الحديث عن تاريخ العلوم والثورات العلمية غير ذي قيمة. لذلك حري بنا أن نعود إلى ميزات أهم للبراديغم، نجملها في ما يلي:

ـ أنه يعتبر أداة إجرائية لتفسير تاريخ العلم ومدارسه، ومن شأن هذه الأداة أن تحد من النـزوع إلى الصراع بين المدارس العلمية داخل الحقل المعرفي الواحد. فجميعها تمتلك نمطًا فاعلا من الممارسة العلمية..

ـ أنه يثبت الطابع المتفاعل والتكاملي للمعارف العلمية، ضمن سياق تداولي محدد. ولا ينظر باحتقار إلى الالتزام بالتقاليد العلمية، بل يعتبر هذا الالتزام شرطا لتطور العلم، نظرا للطابع المنفتح للبراديغمات العلمية، كما تقدم..

ـ أنه يقر بالخصوصية الثقافية للبحث العلمي، رغم كونية انشغالاته. فالبراديغم العلمي مرتبط بالجماعة العلمية، بل بالمجتمع العلمي الذي يحمله. لذلك فهو يحمل القيم الثقافية للمجتمع العلمي الذي يحمله، مثلما يحمل الخصائص الإبستيمية للعقل العلمي الذي يتداوله.

فما هي القيم الثقافية الموجهة للبراديغم العلمي الإسلامي؟ وما هي خصائصه الإبستيمية؟ وهل يفضي القول بتجديد هذا البراديغم إلى ثورة عليه، كما يلوح من نصوص توماس كون، فننسلخ من قيمنا الإسلامية وعقلانيتنا الشرعية؟ أم أن التجديد عود إلى تلك القيم وإحياء لتلك العقلانية، فنلغي مفهوم الثورة من تاريخ العلوم الإسلامية؟ أم ينبغي إعادة بناء تاريخ العلوم عامة، وتاريخ العلم الإسلامي خاصة، بشروط جديدة تفرضها هذه المادة العلمية الجديدة التي لم يهتد إليها توماس كون وأضرابه، فضاقت تعريفاتهم للبراديغم ووظيفته عن الإحاطة بها؟


[1]. عالم فيزيائي أمريكي، ولد عام 1922م، اشتغل بفلسفة العلوم، له نظرية خاصة عن تاريخ العلم وحركته ترتكز على مفهوم البراديغم، قدمها في كتابه الشهير “بنية الثورات العلمية” عام 1962م، ترجمه إلى اللغة العربية في الكويت الدكتور شوقي جلال، وله ترجمة أخرى بعنوان “بنية الانقلابات العلمية للدكتور سالم يفوت. من مؤلفاته المتصلة بهذا الموضوع أيضا كتابه المهم:
The Essential Tension: Selected Studies in Scientific Tradition and Change
[2]. توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال ضمن سلسلة “عالم المعرفة”، عدد 162، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1992م. ص41.
[3]. يتحدث كون عن “النماذج الإرشادية الميتافيزيقية” أو “الجوانب الميتافيزيقية في النماذج الإرشادية” ويعني بها: “الالتزام الجمعي أو المشترك بمعتقدات معينة” ينظر: بنية الثورات العلمية، ص255. والحق إن علاقة العلم بالاعتقاد من الموضوعات التي أدركتها البحوث المشتغلة بالإبستمولوجيا وتاريخ العلوم المعاصرة؛ إذ لا توجد مفاهيم علمية -مهما بلغت من الدقة والنـزاهة- عارية من كل اعتقاد. نص على ذلك غير واحد من الإبستمولوجيين ومؤرخي العلوم المعاصرين أمثال: كواين Quine وأوليان Ullian وهمبلC. G. Hempel   وباشلار G. Bachelard ومركوليس Margolis وهنتيكا J. Hintikka وغيرهم. ينظر في ذلك الفقرة الجيدة العرض والتركيز للعلاقة بين المعرفة العلمية والاعتقاد في: بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية، الرباط: دار الأمان، والبيضاء: المركز الثقافي العربي، 1999، ص279-280، وينظر أيضا نموذجا تطبيقيا لهذه العلاقة بين الرياضيات والاعتقاد في التراث العلمي الإسلامي لـ إدريس نغش الجابري، ضمن: دراسات في فلسفة العلوم الإسلامية وتاريخها، آنفو برانت، فاس، ط 1، 2009، ص119-163.
[4]. يعتقد ديكارت أن الله بعد خلقه الأشياء ضمن استمرارها في الوجود. فالخلق المستمر هو الفعل الذي يحفظ به الله العالم في وجوده وحركته، فالله يواصل أمره بأن يكون العالم موجودا ومتحركا. ينظر: أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل وإشراف أحمد عويدات، منشورات عويدات، باريس/بيروت، ط 2، 2001. ج1، ص235-236.
[5]. في عصر نيوتن كان هناك تفسيران لطبيعة الضوء: (الأولى) أنه ذو طبيعة متصلة، فهو عبارة عن موجات، وهذه نظرية العالم الهولندي هويغنـز، و(الثانية) أنه ذو طبيعة منفصلة، فهو عبارة عن حبات تنتقل في الفراغ أو المكان المطلق، وهذه نظرية نيوتن. ورأى نيوتن أن الاعتقاد بالطبيعة الموجية للضوء يشترط الاعتقاد بوجود وسط تنتقل عبره الموجات الضوئية، وهذا الوسط هو الأثير. والأثير مفهوم غامض، غير أن مفهوم الفراغ أو المكان المطلق عند نيوتن لا يقل عنه غموضا. وكلها مفاهيم تنتمي إلى مجال الاعتقاد الميتافيزيقي الضمني الذي يتغلغل في العلم.
[6]. بنية الثورات العلمية، ص41.
[7]. وقد خصص موران لهذا العلم الفصل الرابع من كتابه:
«La Méthode 4 – Les idées, leur habitat, leur vie, leur mœurs, leur organisation», Edition du Seuil, Paris – 1991.
[8]. وذلك في كتابهما: The Diffusion of Technical Innovations and Changes of Techno-Economic Paradigm, University of Sussex, 1986
[9]. ينظر جويل باركر في:  Paradigms: The Business of Discovering the Future

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى