جسور حضارية

حضارة العبث ..

يتحدث الكوميدي الفرنسي المشاغب للنظام العالمي القائم “ديودوني” في سكيتش هزلي عن متاعبه مع القضاء الفرنسي، بسبب اتهامه بمعادة السامية، لبعض مواقفه المناصرة للقضية الفلسطينية والمستنكرة للعقيدة العدوانية الصهيونية. ثم يذكر في سياق كلامه حالة المغني الفرنسي “برتران كانتا” الذي ضرب “صديقته” إلى حد الموت، ومع ذلك لم تغضب عليه دوائر الأعمال الفنية، وكان تعامل القضاء معه رحيما، فقد أمضى سنوات قليلة في السجن، وخرج منها ليعاود عمله الفني من جديد.

يقول ديودوني بأسلوب ساخر على لسان زوجته: “كان عليك أن تضربني إلى الموت لعل القضاء يتعاطف معك بدلا من تشدده معك لمواقفك الفكرية!”

أرى أن هذه الطرفة تختصر المشهد الراهن لِما وصلت إليه الحضارة العصرية، والأمثلة أكثر من أن تحصى ..

»»»»»»»»»»

ذلك الشخص الذي يقتل العشرات دون أن تكون له في ذلك قضيةٌ يدافع عنها، أو مطالبُ معقولة يسعى إلى تحقيقها هو: مريض نفسي، يحتاج إلى علاج ومتابعة طبية، وقد يكون معذورا بما قاساه في طفولته من المآسي الأسرية. بل قد يتعاطف الناس معه، أو ينبهرون بشخصيته العنيفة. ولنستحضر مثلا أن بعض “القاتلين المتسلسلين” المشهورين يحظون بانجذاب نساء كثيرات نحوهم (كحالة بوندي أو راميريز وغيرهما)؛ ولنتذكر مثلا انبهار الثقافة الغربية – كما يظهر ذلك في الأدب والفن – بشخصية القاتل المأجور الذي يقتل لأجل المال ويجعل ذلك مصدر رزقه؛ أو افتتان المخيال الشعبي بتاجر المخدرات (مثل بابلو إسكوبار) الذي يجمع الملايين ويدوّخ شرطة العالم.

لكن القاتل يتحول فجأة إلى إرهابي مُدان بكل لسان، يُبغِضه الناس ويشوهه الإعلام ولا يعذره أحد، متى جعل لقتله هدفا “فكريا”، أو غايةً “حضارية”، بقطع النظر عن كون ذلك مما يسوِّغ القتلَ فعلا.

وتلك الجماهير الرياضية التي تمارس الشغب داخل الملاعب وخارجها، وتخرّب الممتلكات العمومية، دون أن يكون لذلك أدنى سبب معقول، هم: صغار يحتاجون إلى تربية، وجهال لا بد لهم من توعية، ولا يدخلون في خانة الإجرام أصلا.

لكن إذا خرجت الجماهير في مظاهرات ترفع شعارات “حضارية”، ومطالبات وراءها دافع معقول – ولو دون تخريب -، فإنهم: مناوئون للنظام القائم، يعامَلون بمنطق المجابهة لا الإقناع، والمواجهة لا الحوار – وهذا حتى في أعتى الديمقراطيات وأرسخها!

وهذا الذي يغازل فتاةً صغيرة أو يرتبط بها في علاقة جنسية خارج إطار الزواج، هو شخص لم يرتكب جرما مادام في إطار غير مسؤول، و”الحب ليس حراما!”.

لكن ذاك الذي يُقدِم على الزواج بفتاة صغيرة دون السن القانوني، هو مجرم يستحق الإنكار، لأنه يستغل براءة تلك “الطفلة”، ويحمّلها ما لا تحتمله من المسؤوليات!

والفنان الفاسق الذي يغتصب أو يتحرش جنسيا بالمعجبات، يجدُ من حملات التضامن معه – من المعجبين والفنانين -، ما يهوّن جريمته. لكن رجل الدين والفكر لا يسمح له أبدا بمثل ذلك، ولا بأقل منه، بل ينكر الناس عليه زواجه إن كان في سياق لا يوافق العرف السائد.

»»»»»»»»»»
والخلاصة التي نستنتجها من هذه الأمثلة، ومما يشابهها، أنّ كون الشخص مختلا نفسيا، أو مشاغبا عنيفا، أو فاسقا لا يتحمل مسؤولية تصرفاته، أفضلُ – من الناحية المجتمعية – من أن يكون صاحب أمانة ومسؤولية، وحاملا لهمٍّ فكري أو ديني أو حضاري.

نحن أمام حضارة تفتح الأبواب لكل فاجر أو غبي فارغ الذهن ..

وتشجّع على الجهل والتفلت واللامسؤولية ..

وتُعْلِي من شأن العدمية والضياع ..

وتَقبل سُلطة الهرمونات على الأفكار!

لترضى عنك الجماهير، وتتساهل معك الآلةُ القانونية، وتستطيع التخلص من كل رقابة، وتجاوز كل صعوبة، عليك أن تتبنى المذهب المُتَعي (hédoniste) المتفلت من جميع القيود، وتعلن قبولك بكل أصول الثقافة المهيمنة التي هي دين الإنسانية الجديد، دون التفكير في نقد أو معارضة، ولا حتى في تفكير أو تحليل..

لكنك إذا اخترت ذلك، فقدت روحك وضيعت قلبك وخسرت إنسانيتك ..

ولست أحب لك ذلك ..

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى