خارطة التنوير من التنوير الغربي إلى التنوير الإسلامي (ج2)

6 – ما أهم الأسس الفكرية للتنوير العلماني؟
الكتب التي تؤرخ للفكر والفلسفة الغربية تختلف في تكثير أو تقليل هذه الأسس الفكرية، والسبب الرئيسي للتكثير هو أن يضم الكاتب للأسس ما هو ناتج من أحد الأسس وليس أساساً مستقلاً، وإذا راعينا ألا نقع في هذا الإشكال فإننا سنقتصر على أساسين فقط، هما:
1 – العقلانية:
و(الفكر الاستناري فكر عقلاني يؤكد المرجعية الإنسانية ومركزية العقل الإنساني، فمصدر المعرفة الوحيد هو العقل (الذي لا يقبل إلا البديهيات الواضحة وما يتفق مع قواعد المنطق)، والحواس (التي لا تقبل إلا ما يُقاس)، والتجريب (الذي تخضع له كل الموجودات). وكل ما هو مطلوب من الإنسان العاقل (المزوّد بالعقل وبالحواس وبالمنطق والمعرفة المتراكمة التاريخية والعلمية)، أن يقوم عقله برفض أي حقائق متجاوزة للواقع المادي المحسوس، مثل الأساطير والأوهام والغيبيات والتخيلات والحجج التقليدية والعقائد والمسلمات)[6].
وتتجلى مركزية العقلانية في التنوير من جواب كانط على السؤال الذي وجهته إحدى الصحف الألمانية لقرائها ولمجموعة من النخب الألمانية في الوقت نفسه: (ما هو التنوير؟).
فكان جواب كانط: (التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي يرجع الذنب فيه إليه، وهذا القصور هو عدم المقدرة على استخدام العقل إلا بتوجيه من إنسان آخر، والذنب في هذا القصور يرجع إلى صاحبه، إذ لم يكن سببه هو نقص في العقل، بل كان نقصاً فيما ينبغي من عزم وشجاعة لاستخدام العقل دونما توجيه من إنسان آخر.
لتكن لديك الشجاعة لتستخدم عقلك هذا هو شعار التنوير، وإن الكسل والجبن هما السببان اللذان يرجع إليهما رضاء نسبة كبيرة من الناس بالقصور طوال حياتهم بعد أن خلصتهم الطبيعة من توجيه الآخرين.
وهما كذلك السببان اللذان يرجع إليهما سهولة استئثار الآخرين بالوصاية عليهم، وإن في القصور لراحة، فهناك الكتاب الذي له في نظري العقل والكاهن الذي له في نظري الضمير والذي يقرر لي ما أتناوله[7]، وهكذا فليست بي حاجة لأن أجهد نفسي، لست بحاجة إلى التفكير ما دام يمكنني الدفع، وهناك من يقومون من أجلي بهذه المهمة الثقيلة.. وليس هناك شيء يتطلبه التنوير قدر ما يتطلب حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور)[8].
2 – الطبيعية:
(آمن دعاة الاستنارة بأن الطبيعة لها قوانينها الثابتة المطردة المعقولة، وأنها كل مادي ثابت متجاوز للأجزاء له غرض وهدف، ولذا فهي مستودع القوانين المعرفية والأخلاقية والجمالية، وما دام الإنسان مرتبطاً بالطبيعة مهتدياً بهديها، فإنه سيصل إلى الطريق المستقيم ويصل إلى المنظومات المعرفية والأخلاقية التي تخدم صالحه وتحقق التقدم اللانهائي وتعمل على ضبط المجتمع وترشيد السلوك الإنساني، فظهر الإنسان الطبيعي والحقوق الطبيعية، والدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية)[9].
وعن هذين المحورين: نتجت باقي النظريات والقيم التي يجعلها مؤرخو الفكر أعمدة التنوير الفكرية وهي: العلمانية، الحرية، المساواة، الديمقراطية، التقدم، التاريخية، الوضعية، واللادينية[10].
7 – يقول تودوروف في عرضه لأسس التنوير الفكرية: (إن أول سمة تكوينية لفكر الأنوار تتمثل في جعلنا نفضل ما نختاره ونقرره بأنفسنا على ما تفرضه علينا سلطة خارجة عن إرادتنا، ومن ناحية أخرى ينبغي الانقياد طوعاً للقوانين والقيم والقواعد التي يرغب فيها بالذات أولئك الذين هي موجهة إليهم.. ليس لأي سلطة مهما كانت راسخة أو محترمة أن تبقى في مأمن من النقد، وأن ليس للمعرفة سوى مصدرين هما العقل والتجربة.. وأفضى مبدأ الاستقلالية إلى مبدأين، أولهما يتعلق بالسيادة بحيث صار الشعب مصدر كل سلطة ولم يعد ثمة شيء أعلى من الإرادة العامة، وثانيهما مبدأ حرية الفرد في حدود دائرته الخاصة)[11].
8 – وإذاً فقد تبلورت في حقبة التنوير الأوروبي حزمة من المفاهيم والنظريات المعرفية والدينية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية كانت هي الوقود الفكري والفلسفي لعربة الحداثة الغربية، وما أنتجته بعد ذلك من مذاهب فلسفية وسياسية واقتصادية ونفسية واجتماعية، فيمكننا بشيء من التجوز أن نقول إن علاقة أفكار التنوير وقيمه بالمذاهب الفلسفية والأدبية والاجتماعية والسياسية الغربية الحديثة؛ هي علاقة المنهج والرؤية بالقضايا والمسائل، فالعقلانية العلمانية نازعة القداسة والسحر عن العالم هي الإطار الذي تعمل داخله المذاهب الفكرية الغربية كلها.
9 – وقد تعرضت هذه الحداثة نفسها بوقودها الفكري التنويري لنقد غربي لاذع لا يبدأ بنيتشه وهايدجر[12] ولا ينتهي بأطوار ما بعد الحداثة[13]، مروراً بمدرسة فرانكفورت[14]، وقد قوبل هذا النقد بموجة دفاعية[15] أخرى تعترف ببعض أخطاء التنوير، لكن مع التنبه إلى أن نقاط الاختلاف بين نقاد التنوير الغربيين والمدافعين عنه كثير منها في جهات تختلف عن النقد الإسلامي له.
10 – وكانت هي الثقافة العالِـمة التي حملتها جيوش أوروبا في اصطدامها بالشرق العربي والإسلامي على الخصوص، وعملية الاصطدام هذه هي التي ولّدت نوعي التنوير الموجودين في الشرق، وهما: التنوير الشرقي العلماني، والتنوير الشرقي الإسلامي، وهما القسمان الثاني والثالث من القسمة التي ذكرناها في بداية المقال، وهذا أوان بيانهما:
ثانياً: التنوير العلماني الشرقي:1 – يُعطي أكثر مؤرخي الفكر العربي أهمية استثنائية للحملة الفرنسية على مصر (1798م) وما حملته معها من أدوات التحديث وقيم الحداثة، ويعدونها لحظة اصطدام الشرق والغرب، وهو الاصطدام الذي أحدث تصدعاً فكرياً في الأبنية الفكرية العربية نقلها من مرحلة العقائد والمذاهب الفكرية التراثية إلى مرحلة تشكيل المواقف من المنظومة الفكرية الغربية تشكيلاً فتح المجال لنشأة تيارات فكرية لم تكن موجودة في المنطقة قبل هذه الحملة، فكانت هذه الحملة الشرط التاريخي لبروز تيار التغريب وتيار التنوير الإسلامي[16] على ما سيأتي بيانه، ويبقى الحديث الآن معقوداً للتيار التنويري العلماني، والذي يسميه بعضهم تيار التغريب أو التيار الحداثي.
2 – إذا تتبعنا التنوير العلماني الشرقي منذ تاريخ الحملة الفرنسية، سنجد رموزه هم المجموعة التالية من المفكرين: بطرس البستاني (1883م)، وفرنسيس مراش (1783م)، وشبلي الشميل (1917م)، وفرح أنطون (1922م)، وقاسم أمين (1908م)، وأحمد لطفي السيد (1963م)، وطه حسين (1973م)، وعلي عبد الرازق (1966م)، وسلامة موسى (1959م)، وأنطون سعادة (1949م)، وساطع الحصري (1968م)، وزكي نجيب محمود (1993)، وصادق جلال العظم، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري (2010م)، ومحمد أركون (2010م)، ونصر حامد أبو زيد (2010م)، وفؤاد زكريا (2010م)، وحسن حنفي[17]، وعبد الكريم سروش.
الجزء الأول »»» \ تابع: الجزء الثالث »»»
[6] (فكرة حركة الاستنارة وتناقضاته) (ص/13) .
[7] أحد العلمانيين العرب لما نقل نص كانط حذف مثال الطبيب، بينما نبه آخر على أن مثال الطبيب هو أضعف أمثلة كانط، ولو تدبر هؤلاء جميعاً هذا المثال وضعفه لعلموا أن ضعفه دال على ضعف المثالين قبله، ودال على الخلل الكبير في التصور التنويري للعقل، ولبسط هذا موضع آخر إن شاء الله.
[8] انظر ترجمة نص كانط كاملة في: (صفحات خالدة من الأدب الألماني)، ترجمة وتقديم مصطفى ماهر (ص/79-87)، نشر: المركز القومي للترجمة بمصر.
[9] ( فكرة حركة الاستنارة وتناقضاته) (ص/16-17).
[10] مع التنبه للطبيعة الطيفية لعلاقة هذه المفاهيم بفكر كل فيلسوف على حدة، فلا يلزم اجتماعها في واحد منهم ولا يلزم وجودها في كل واحد منهم أو وجودها بنفس القوة.
[11] (روح الأنوار)، ص/10-23، وقد اقتطعنا من هذا السياق الطويل الجمل التي سقناها في هذا المقطع.
[12] انظر: كتابا المفكر المغربي محمد الشيخ: (نقد الحداثة في فكر نيتشه)، و(نقد الحداثة في فكر هايدجر)، من منشورات الشبكة العربية للأبحاث.
[13] راجع مثلاً: (نقد الحداثة) لآلان تورين، ترجمة أنور مغيث، نشر المركز القومي للترجمة؛ و(المدخل الفلسفي للحداثة) لابن داود عبد النور، نشر: الدار العربية للعلوم.
[14] خاصة كتاب أدورنو وهوركهايمر: (جدل التنوير)، نشر دار الكتاب الجديد، وكتاب هوركهايمر: (نقد العقل الأداتي)، وكتاب آدورنو: (الجدل السالب)، ولم أطلع عليهما كاملين مترجمين، وإنما نقولات مترجمة عنهما، وقد اتكأ عليهما المسيري كثيراً في نقده للتنوير والحداثة الغربية، ووجّه إليه النقد بسبب ما اعتبره نقاده غفلة منه عن أثر التجربة التاريخية والمجتمعية والسياسية لرواد مدرسة فرانكفورت في منهجها النقدي، وانظر نموذجاً عربياً آخر لنقد التنوير يصدر من علماني عربي ذي خلفية اشتراكية هو الدكتور جلال أمين في كتابه: (التنوير الزائف)، نشر دار العين.
[15] راجع مثلاً: (القول الفلسفي للحداثة) ليورجن هابرماس، نشر: وزارة الثقافة السورية؛ و(روح الأنوار) لتزفيتان تودوروف، نشر: دار الفارابي.
[16] ومن أقدم التصورات للتيارات الفكرية على هذا النحو ما كتبه محمد رشيد رضا في رسالته الخلافة كما تجد نصها ضمن كتاب الدولة والخلافة في الخطاب العربي (ص/91-94)، وانظر منها (ص/119)، و(127) كمثال على ما سنقوله بعد من سلوك علماء ومفكري هذه الطبقة لمسالك الشذوذ الفقهي أثناء عملية المواءمة بين الحداثة الغربية والشريعة نصاً وتراثاً.
[17] وليس خفياً على الباحث ما وجهه حسن حنفي (مثلاً) لبعض قيم التنوير من نقد، لكن الشأن كما قلنا في موارد الاشتراك بينه وبين فكر التنوير ومدى استيفائها لشرط الأصالة والمركزية المؤذنين بإدراجه ضمن نفس السلك وإن لم يقل بكل مكوناته.