الثقافة حياة المجتمع
إن طريق الإصلاح والتغيير يحتاج إلى انبعاث الفكر من خموله، وتجديدِ العقل للنهوض بمهامه المَنُوطَةِ به في نشر الثقافة وإشاعة العلوم والمعارف، وتطبيق أحكام الشريعة في مختلف مجالات الحياة، ونقدِ الواقع بعد فهمه في مظاهره وصوره المقصودة بالتغيير والإصلاح. وفي هذا الشأن يقولُ عبدالمجيد النجار: “إن كلَّ حركة تغيير لا تُفهَمُ حقَّ الفَهْم في مقولاتها ومنهجها إلا بفهم الواقع الذي نشأت فيه، وهَدَفَت إلى تغييره؛ ذلك لأن التغيير يبتدئ بنقد الواقع نقدًا يُفضي إلى الحكم عليه كليًّا أو جزئيًّا بالبطلان، وينتهي بإلغائه وإحلال صور أخرى محلَّه، فهو بهذا المعنى يتنزَّل منزلةَ السبب بالنسبة لحركة التغيير، ولا بدَّ من فهم المُسبِّب من فهمٍ عميقٍ للسبب، فإن العمل التغييريَّ بحكم معالجته للواقع ومباشرته له، يكون متأثِّرًا في منهجه وأساليبه ببنية ذلك الواقع وطبيعة تركيبه، حيث إنه ينزع إلى اتِّخاذ المناهج والأساليب التي تتلاءم مع تلك الطبيعة، وتكون أبلغ في التقويض والهدم؛ ولذلك فإن الوقوف على مناهج التغيير في أي حركة، وفهمها جيِّدَ الفهم لا يتأتَّى إلا باستيعاب عناصر الواقع الذي هدفت إلى تغييره، والنَّفاذِ إلى حقيقته في مختلف الصور”[1].
وطريق الإصلاح والتغيير يحتاج إلى الاستعداد للنِّزال؛ لإثبات البقاء للأصلح، وليس للأقوى؛ لأن العبرة بالمحتوى، لا بالقشر الظاهر؛ ولهذا على المثقفين أن يتحمَّلوا مسؤولية تغيير أوضاع بلادهم، وأن يساهموا في تحسين ظروف فئات المجتمع وطبقاته، لا أن يقفوا موقفَ المتفرِّج العابث، الذي لا يُتقِنُ إلا تقطيب جبينه، والتفكير الضيق فيما لا يتجاوز موطئ قدميه وحدَّ إبصاره، والانجذاب إلى شوارد الأفكار واتباع الأهواء والملذَّات، والتصفيق بقوة دون وعيٍ أو شعور بوخزات الضمير اليَقِظ حيالَ ما يشاهده وينصت إليه، ولا تهتز في قلبه نبضةُ إحساس تجاهَ ما يتابعه ويقرؤه.
ونظير هؤلاء هم أشخاصٌ سلبيُّون في المجتمع، يستهلكون أكثر مما يشاركون، وقد تحدَّث مالك بن نبي عن طبيعة العلاقة الثقافية في كتابه “مشكل الثقافة”، فاعتبر القيمة الثقافية للأفكار وللأشياء تقوم على طبيعة عَلاقتها بالفرد وعلى صلتِها بعالم الأشياء، وهذه الصلة هي التي تُجسِّد ما يصطلح على تسميته “بالعلاقة المتبادلة” بين سلوك الفرد وأسلوب الحياة في مجتمع معين، وبالتالي فالثقافة عنده هي: التعبير الحسي عن علاقة الفرد بهذا العالم، وكما أن الفردَ إذا فقَدَ صلتَه بالمجال الحيوي، تقرر أنه مات موتًا ماديًّا، كذلك الأمر إذا فقد صلته بالمجال الثقافي، فإنه يموت موتًا ثقافيًّا، وبالتالي فالثقافة هي حياة المجتمع التي بدونها يصبح مجتمعًا ميتًا[2].
لأن الثقافة بلا موقف جريء هي استسلام وخنوع، وانفصال للشعور الإنساني عن روح الثقافة وجوهر تجلياتها وتأثيراتها على الفرد والمجتمع، وإقرارٌ بمساوئ الواقع المتأزِّم، والرضا عن الانتهاكات التي ترتكب في حق الإنسان، وقد ألَّف الأستاذ أحمد بوعود[3] كتابًا سماه: “فقه الواقع: أصول وضوابط”، مشاركًا من خلاله في تحقيق الوعي الحضاري والثقافي، كسبيل لإعادة قراءة الواقع والتفقُّه بكيفيَّات تغييره، وتحديد مواطن الخلل وأسبابه التي لَحِقت بالأمة المسلمة، فأقعدتها عن التفقُّه بالحاضر واستشراف الماضي والتبصُّر بالمستقبل، وله كلامٌ نفيس حول أصول فقه الواقع وضوابطه، حيث اعتبر الاعترافَ بالواقع من القضايا الجديرة بلفت النظر والتنبه لها، وهذا الاعتراف لا يعني إقرارَه على ما هو عليه من الخطأ والتخلف، والظلم والجهل، والاستبداد، أو الخضوع له والتنازل عن قيم الكتاب والسنة، والافتتان عن بعض ما أنزلَ الله، أو العدول عن تقويمه بقيم الكتاب والسُّنة، وتحريف كيفية التعامل معها من خلال واقع الناس، والخضوع له وإقراره باسم الواقعيَّة، وإنما يعني: أن البَدْء في أيَّةِ عملية للتنمية والنهوض والارتقاء لا بد وأن تأخذ في اعتبارها هذا الواقع، وألَّا تتجاهله؛ لأن تجاهلَ الواقع والقفز من فوقه وعدم أخذه بعين الاعتبار هو استنباتٌ للبذور في الهواء بدل زرعها في الأرض. أما التنازل عن القيم وتجميد الفاعلية، وإقرار الظلم والعدول عن الحق، والتوقف والاستنقاع الحضاري باسم الواقعية، فهو فقدانٌ للإرادة، وانتحارٌ جماعي، وانحدارٌ بشري، وقضاء على أي أمل في الإصلاح[4].
وطريقُ الإصلاح والتغيير يحتاج كذلك إلى إعادة النظر في المفاهيم والمصطلحات، وأن يشارِكَ المُثقَّفون في بعث مضامينها الحقيقية، وإحياء معانيها الجليلة، وغاياتها النبيلة؛ حتى تؤدِّي وظيفتَها، فاختلاف وجهات النظر حولَها يؤدي إلى ممارسات مختلفة على مستوى التطبيق قد تُسيء إليها، ويَعْظُمُ الخَطْب إذا تعلق المعنى بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. لهذا نبَّه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ضرورة ضبط المصطلح ومدلولاته في فهم الكلام الصادر عنهما فقال: “ومن أعظم أسباب الغلط في فهم كلام الله ورسوله أن ينشأ الرجلُ على اصطلاح حادثٍ، فيريد أن يُفسِّر كلام الله بذلك الاصطلاح، ويَحْمله على تلك اللغة التي اعتادها”، وقال في سياق هذا المعنى: “ومَن علم أن دَلالة اللفظ تختلف بالإفراد والاقتران كما في اسم الفقير والمسكين، والمعروف والمنكر، والبغي وغير ذلك من الأسماء، وكما في لغات سائر العالم عربِها وعجمها – زاحت عنه الشبهة في هذا الباب…”[5].
فالابتعاد عن المنهج العلمي السليم في الفهم والتعامل والاستدلال قد أساء إلى مجموعة من المصطلحات بما فيها مصطلح الثقافة، التي خرَجَت عن ضابط مدلولها، وانحرفت عن جادَّة مفهومها، وتلوَّنت بألوان الانحراف الديني والأخلاقي، وطغَتْ عليها مظاهرُ الجهل في الفهم، والخلل في التصور والممارسة، فتقيَّد أهلها بتلك السدود التي حجبت عنهم إبصار الحق والعمل به، وظلت أفكارهم حبيسةَ محيطهم المنغلق، وواقعهم المتأزم، لا تتطلع إلى خلق انسجامٍ ثقافي بين الماضي والحاضر!
1 – حاجتُنا إلى انبعاث ثقافي:إن الثقافة الإسلامية في حاجة إلى مدِّ شرايينها بدمٍّ طاهر من لَوْث الجهل والجمود، وإلى إحياء فورة التجديد في عروقها الضيِّقة؛ حتى تَتَّسع؛ لتشمل العلوم والمعارف التي ترقى بطبقات المجتمع، ولا تنحسر في مجالات تبقى وقفًا على النُّخَب وطبقة النبلاء.
“طريق الإصلاح والتغيير يحتاج إلى الاستعداد للنِّزال؛ لإثبات البقاء للأصلح، وليس للأقوى؛ لأن العبرة بالمحتوى، لا بالقشر الظاهر؛ ولهذا على المثقفين أن يتحمَّلوا مسؤولية تغيير أوضاع بلادهم، وأن يساهموا في تحسين ظروف فئات المجتمع وطبقاته” د. صفية الودغيري
والثقافة الإسلاميَّة لن تنهضَ إلا إذا تيسَّرت لها سبل الازدهار والترقي، وتوفَّرت ملكتها لأبناء الأمة وشبابها وَفْق ترتيب يناسبُ الواقع واحتياجات العصر، ويُؤهِّلهم للاضطلاع بجلائل الأعمال، وفك قيود الحصار الثقافي التقليدي، الذي جعل الفكر منكمشًا على نفسه، والعقل خاملًا في غيابات جبِّ الجهل العميق، ومتحجِّرًا على الماضي الذي لا يمتُّ إلى ماجَرَيَات الأحداث بصلة، ولا يبعث في أركان المجتمع نهضة تحرك الدمَ الراكد في أوصاله الجامدة.
فصوت الثقافة لا يعلو وفي حباله المعرفية انقطاعٌ وتمزُّقٌ يجعل العلوم والمعارف تَصْدَأُ، ولا ينجلي عنها قشرُها السميك حتى يغرسَها في القاع، وهذه الأوضاع شكلت مأزقًا ثقافيًّا يمتد بامتداد مظاهر الاضطراب والعجز والقَبول بالتقليد والتَّبَعيَّة للغالب، وتأثيراته السلبية على المجتمعات الإسلامية، وانعكاساته على هويتها ونسقها الثقافي والحضاري. وهذا ما نبَّه إليه د. طه جابر العلواني فقال: “إننا لا نزالُ نعيش حالات الاضطراب والعجز عن تفهُّم طبيعة نَسَقِنا الحضاري الإسلامي، والقدرة على الإبداع ضمنه، أو الوقاية من فعالية انعكاسات وتأثيرات الأنساق الحضارية العالمية الأخرى القائمة علينا، وهذه الأوضاع بجملتها شكَّلت – ولا تزال تُشكِّل – مأزقًا متعدد الوجوه، مركَّب العناصر؛ مما جعل المجتمعات الإسلامية تعيش حالة استتباع لغيرها، وتتعرَّض لضغوط مختلفة، تكاد تفقدها هويتها ونسقَها الحضاري والثقافي، وتقضي على شخصيتها، فنحن لا نواجه اهتزازًا في بِنيتنا الداخلية، ونسقنا الحضاري الإسلامي فقط؛ ولكننا نعيش أيضًا مخاطرَ فقدان الكيان والهُوية، والذَّوبان في أي كيان يُصنَع لنا أو يراد لنا الذوبان فيه”[6].
والثقافة الإسلامية لن تنهض في وسط يَعِجُّ بالصراعات التي تدفع كلَّ طبقة ثقافية إلى التعصب المقيت، ومحاربة الأفكار المخالفة لأفكارها وإن كانت على الصواب والحق. ولن تحقِّق التغيير والإصلاح إلا إذا حرص أبناؤها على خَلْق انسجام ثقافي؛ يزيح الهُوَّة السحيقة التي تفصل بينهم؛ فيوحدون الرُّؤى، ويقربون بين الأفكار؛ حتى لا تختلفَ عليهم السبل، ولا تضيع الثقافةُ وسط تجاذبات الفرق التي تتنكَّر لبعضها البعض، وتضيع هُوية المجتمع بين أنواع مختلفة من الثقافات، في مرحلة نحن في أشدِّ الحاجة فيها إلى التعاون والتضامن؛ لاستجماع الهمم، وشدِّ عزائم أبناء الأمة؛ للتغلُّب على مظاهر الشَّتات والفُرقة بين فروعها المنفصلة وأصولها المُجتَثَّة بسبب التنافس المَقِيت بين طبقات ثقافيَّة متعددة المشارب.
فإحياءُ الثقافة العربيَّة الإسلامية هي وسيلة من وسائل إنجاز الأعمال الجليلة، التي تُمهِّد للوصول إلى الأهداف التي نتوخَّاها، وتساهم في حل مشكلات العصر وتنظيم المجتمع. ويُعدُّ المغرب من بين البلدان العربية التي كانت – وما تزال – تعاني من مشكلة تعدُّد أنواع الثقافات التي تستوجب تحقيق الانسجام بينها على الوجه اللائق الناجع، ولقد تعرَّض الأستاذ الطاهر زنيبر[7] – في مرحلة ما بعد استقلال المغرب – إلى هذه المشكلة، ودعا إلى تحقيق انسجام ثقافي، وحثَّ المثقفين المغاربة على مواصلة الكفاح، الذي يستوجب عليهم بذل النَّفَس الطويل، والسواعد القوية، والعقول الراجحة في معركة البناء والإنشاء، وتهيئة الوسائل للسموِّ بالثقافة؛ بما يكفل لأمتنا الارتقاء إلى أعلى الدرجات، واحتلال مكانة مرموقة في العالم المتحضِّر؛ لأن الثقافة في هذا العصر “ليست في حاجة إلى الاستدلال على أنها هي العصا السحرية التي يستعملها الإنسان لحلِّ كل ما يعترضه من مشاكل؛ فهي التي تُسخِّر له الطبيعة، وتعطيه الطاقة والقوة، وتُسهِّل عليه تنظيم المجتمع الذي يعيش فيه، فبالعلم والثقافة فتح ما كان مغلقًا من أسرار الكون، وتدفقت الخيرات والأرزاق في المعمور، وتيسَّرت المواصلات في شتَّى أشكالها وأنواعها، واستخرجت الكنوز الكامنة في باطن الأرض، وارتفع الإنتاج الصناعي والاقتصادي والفلاحي، وتطوَّرت أساليب الحكم والإدارة والقضاء، وتحسَّنت أذواق الناس في معاملاتهم، ومأكلهم ومشربهم، وملبسهم ومسكنهم، وأُرهفت إحساساتُهم ومشاعرهم، وسمَت الفنون الجميلة، ولم تبقَ وقفًا على طبقة بل صارت ملكًا مُشاعًا في المجتمع؛ للترفيه عن النفس وإعدادها لما ينتظرها من أعمال”[8].
2 – إعادة النظر في البرامج والمناهج التربوية والتعليمية:إننا في حاجة ماسَّة وضرورة مُلحَّة إلى إشاعة العلوم والمعارف التي تخلص للحق وتجهر به، وتنصر الدينَ وتحتج له، وإرساء قواعد الثقافة وظهورها للعيان؛ بما يسمح بإبراز الأفكار الناشئة إلى الوجود، زاهيةً في النفوس، مشرقة البيان، ولن يتحقَّق ذلك إلا بإخماد طنين الجهل في الآذان، والتصدي لوقوع الموانع التي تفصل المتعلِّمين عن طرق أبواب التعلُّم، وحدوث القواطع التي تصرفُهم عن الأخذ بأسباب تحصيلِه، خاصَّة وأننا نعيشُ في عصرٍ قد سطا عليه سلطان الجهل على عقول المثقفين الجُدُد، كما سطا سلطان المادة على سلطان الروح، وانهدَّت دعائم الثقافة المستنيرة بنور الحق، والمُشرقة بروح المعرفة الصادقة، والمستندة إلى قوة المَنطق ونفوذ الحجة، وانحطَّت القيم المعنوية إلى أسفل سافلين، وارتفعت القيم المادية إلى عليِّين، وتكاثر المُدَّعون للعلم، وقلَّ المحافظون على حدود الله، والراشدون في الاهتداء، والراسخون في العلم.
فالثقافة لا ترقى وفي جذورها يباسٌ وجفاف يحدُّ من امتدادها في أعماق المتعلِّمين والمُعلِّمين، فلا بد من تكوين جيل يتمُّ إعداده تربويًّا وتعليميًّا في المدارس والمعاهد ومختلف المؤسسات التعليمية؛ اقتداء بما كان عليه المُعلِّمون الأوائل، حيث كانوا يهتمُّون بتكوين المتعلِّمين تربويًّا ومعرفيًّا، “فكان الأساتذة مربِّين قبل أن يكونوا معلِّمين، وكانوا مثقَّفين قبل أن يكونوا أساتذةَ علمٍ، وكان الأستاذ منهم يراعي الأطفال الذين يتعلمون عنده كما يراعي أبناءه، ويعلِّمُهم كيف يسيرون في الحياة، يعلمهم الرجولة، ويعلمهم كذلك الاستمرار في العمل، ويعلمهم التواضع، ويعلمهم الانطلاق في مسيرة لا نهاية لها إلا بالموت، وهذا سرُّ ما تمتع به كثير من العلماء والمثقفين في المغرب”[9].
ونظرًا لأهمية التعليم في التربية والنهوض بالثقافة كان المُجدِّدون والمصلحون يهتمون منذ القديم بإصلاح التعليم العربي وتأهيل المعلمين للنهوض بثقافة المتعلمين، ومن هؤلاء الفقيه والمصلح المغربي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي ت: 1376 هـ / 1956م صاحب كتاب “الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي”، فقد ألقى عدة محاضرات، وخطب في تهذيب الناشئة التي ستكون رجالَ المستقبل، وحثَّ المعلِّمين على تثقيفها وتقويم معوج أخلاقها، وهذا خطاب قد وَجَّهَه لمدرسي اللغة العربية والدين في حفلة تفريق الجوائز في المدرسة الثانوية الرباطية سنة 1349 هـ، يحثُّهم على تهذيب الأخلاق إلى جانب تلقين العلم، فقال: “لا حياةَ لمن لا أخلاق له؛ فلتكن ثقافة الأخلاق في المقام الأول، وأهم الأشياء التي تنقطعون إليها قبل العلم، فبالتهذيبِ تكون الحياة الحقيقية، أما العلم وحده فحياةٌ صورية، وصورته ممحوَّة بدون تهذيب، فإن كنتم شبابًا مهذَّبًا صارت أمتُكم قويمةَ المبادئ، ونفَعَها العلمُ، ونَفَعت به”[10]، واعتبر نجاح المعلم متوقفًا على السهر على تربية وتهذيب المتعلم وترقيتِه في الفهم، والحفظ، والفكر، والأخلاق، والذات، وأن يسعى لتأخذَ هذه الأمور الخمسةُ حظَّها من التربية والتهذيب وإلا كبرت معوجَّة، وصعُب علاجُها بعد، كما يجب تربيتها على السواء بحسب كل واحدة وما يلائمها ويرقيها، وكما أنَّ الذات ترقى بالأكل والكسوة والنظافة والرياضة، كذلك الأخلاق والفهم والحفظ والفكر بالتأديب والتعليم والتمرين[11].
كما أن الثقافة لا ترقى إلا بتمكين المتعلمين – الذين هم أمل الغد، وبسمة المستقبل – من العلوم والمعارف والفنون التي تقوِّي شخصيتهم، وتنمي ملكاتهم، وترفع من مستواهم في الفهم والإدراك والتحليل والاستنتاج؛ حتى يكونوا أهلًا للانتقال إلى مرحلة التخصص وقد اتَّسعت مداركهم، ولأن الثقافة التقليدية لا تفي بكل الأغراض في وضعها الحاضر؛ فلا بد للطالب أن يتحصَّل على الثقافة العامة إلى جانب تلك الثقافة التقليدية، فذلك هو أنجع علاج لإدخالهم في إطارهم الطبيعي الذي يفرضه التقدم الحضاري والثقافي، وعلى أساس جديد يحتوي الأفكار التي ترقى إلى المستوى اللائق باحتياجات المرحلة ومتطلبات العصر، وتقديم دراسات ترمي إلى وضع سياسة تربويَّة ترتكز على الرفع من مستوى الثقافة؛ حتى تفيَ بالأغراض الضرورية، وتهيِّئ كفاءات متعددة في مختلف المجالات وحقول المعرفة، وشحذ الهمم والعزائم، وبعث الجدِّ والاجتهاد في القرائح، فنحن في مرحلة تحتاج إلى تهيئة الوسائل لتحقيق النبوغ الثقافي؛ لأن ذلك سيَكفُل لأمتنا الارتقاء إلى أعلى الدرجات، كما نحتاج إلى إزالة الأشواك والعقبات أمام المثقفين؛ حتى تتوفَّر لهم سبل التعلم في جو صالح لانبثاق شعلة الإبداع والابتكار لدى أصحاب المواهب في مختلف التخصصات والفنون.
وفي الختام:إن الثقافة كفاحٌ قِوامُه البناءُ، ولُحمتُه هذا الجيل الذي سيبلغُ صداه، وإن الثقافة جهادٌ شريف لنصرة العلم وامتداد المعرفة التي تسبق القول والعمل؛ ولهذا لم يكن غريبًا أن يخصص البخاري في جامعه الصحيح بابًا سماه: “باب العلم قبل القول والعمل”، وقد كان العهد بطالبِ العلم في العهود الزاهرة “أن له من فضيلة الجهاد في ميدان العلم ما للمحارب في ميدان القتال، وهو مضربُ المثل في الدُّؤوب والمثابرة، لا يني يعتمل الفن طالبًا له طلبَ المُضلَّةِ ولدَها، حريصًا على جمع شوارده وأوابده[12] حرصَ الجَموعِ المَنُوع على ماله؛ حتى يضمَّه من جميع حواشيه، ويأخذه من كل أقطاره، ولكن أصبحنا وحسْبُ طالب العلم من علمه أن ينقره نقرَ الدِّيَكة، ويَنْتِفَه نتفَ الهررة، ثم إذا هو العجول المُسارِع يأخذ الصدر في المجالس، وينصب نفسه للتوجيه، وينتفج[13] بممارسة التسديد …”[14]. وباب الثقافة واسع كما أن الحياة العقلية أوسع جدًّا من أن تحصر في طريق واحدة ضيقة، فقد انبسطت أمامها طرقٌ لا تحصى تسع كلَّ الخلائق، وهي ميسرة لمن أرادها، واستطاع أن يجاهد في سبيلها، وأن يبذل لها من نفسه ووقته أنفَسَه، ولم تُوهَبْ لجيل من الناس دون جيل، ولم توقف على فريق منهم دون فريق، فهي لمن أرادها، واستطاع السبيل إليها، وكان عليها قادرًا.
[1] تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت – د. عبدالمجيد النجار – المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة حركات الإصلاح ومناهج التغيير (2) – الطبعة الثانية 1415هـ / 1995م: ص: 43.
[2] مشكل الثقافة؛ مالك بن نبي – دار الفكر بدمشق، ط الرابعة 1984م، ص: 49 – 50 بتصرف.
[3] من مواليد تطوان – المغرب عام 1966م، تخرج في جامعة القرويين (أصول الدين) عام 1992م، كما تخرج في مركز تكوين المعلمين بتطوان عام 1993م، ويعمل مدرسًا بنيابة وزارة التربية الوطنية بتطوان، له العديد من الدراسات والمقالات المنشورة في مجالات الاجتهاد والتجديد والتغيير، منها: “قراءة في تاريخ الفقه الإسلامي”، “أزمة الاجتهاد بين الأمس واليوم”، و”الأساس التربوي في سياسة عمر بن عبدالعزيز”.
[4] (فقه الواقع: أصول وضوابط)؛ أحمد بوعود – ضمن سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، ص: 10.
[5] مجموع الفتاوى: 12 / 106 – 107.
[6] تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت؛ عبدالمجيد النجار، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثانية سنة 1995م، ص: 12.
[7] هو من المنتمين إلى جامعة القرويين في أواسط الأربعينيَّات، حفظ القرآن الكريم، وألمَّ ببعض المتون اللُّغوية والفقهية في المرحلة الابتدائية بزاوية آل زنيبر، حيث مدفن جده الأعلى محمد زنيبر بحي البليدة بسلا، ورحل رفقة شقيقه الأستاذ القاضي محمد زنيبر إلى مدينة فاس؛ لمتابعة دراستهما الإعدادية والثانوية، فحصل على شهادة الباكلوريا، والتحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وحصل على الإجازة في اللغة العربية والدراسات الإسلامية بتفوق، وعمل أستاذًا للغة العربية بثانوية الأميرة “للا نزهة” بالرباط، ثم التحق بالقطاع الإداري سنة 1959م وعمل في إطار الوظيفة العمومية باحثًا إداريًّا، شارك الأستاذ عبدالسلام البكاري في تأليف كتاب في علم الفرائض، وله كتاب في علم العروض لتلاميذ البكالوريا، كما نشرت له جريدة العلم عدة مقالات.
[8] نقلًا عن مقالة: “حاجتنا إلى انسجام ثقافي” بمجلة دعوة الحق – العدد الثاني.
[9] نقلًا عن الأستاذ عبدالكريم غلاب في حفل تكريمه بموسم أصيلة الثقافي – جريدة العلم بتاريخ 18 /7 /2011.
[10] خطاب الحجوي في حفلة تفريق الجوائز في المدرسة الثانوية الرباطية سنة 1349 هـ ضمن مجموع بالخزانة الوطنية المغربية بالرباط: ص: 142.
[11] إصلاح التعليم العربي – بالخزانة الوطنية المغربية بالرباط، ص: 8.
[12] الجمع: آبدة، آبد – أوابد الكلام: غرائبُه.
[13] نفج الشيء: ارتفع، نفج فلانٌ: فخر بما ليس عنده ولا فيه.
[14] مجلة رسالة المغرب – العدد الرابع، السنة السادسة محرم 1367هـ – دجنبر 1947م، ص: 213.