جدلية الدين في الفكر الغربي الحديث.. رؤية تاريخية (1-3)
دراسة تحليلية في ضوء المدرسة الوضعية
لا غرو أن الدين قديم قدم الإنسان، فقد تجد مدنا بلا أسوار ولا ثروة ولا أدب، ولكن لا يمكن أن تجد مدنا بلا معابد أو أماكن للصلاة على حد تعبير المؤرخ الإغريقي “بلوتارك”، فنزوع الإنسان إلى الدين فطرة إلهية جبلت عليها النفوس في كل مصر وعصر، إنه كما يقول المؤرخ اللاأدري ويل ديورنت: ” متعدد الأرواح، دائب النشور والبعث، فما أكثر المرات التي تصور فيها الناس موت الإله والدين في الماضي، ثم بعثا وتجددا”[1]. فحضور الدين بقوة في المجتمعات البشرية، دفع الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس إلى البحث في أصالة التدين ونشأة العقيدة الدينية على ضوء رؤيتهم الأنطولوجية للإنسان وعلاقته بكل ما هو ميتافيزيقي.
وفي خضم الحراك الذي عرف بـ”الصراع بين الدين والعلم”، ومع بزوغ فجر التنوير، ظهرت فلسفة ضد-ميتافيزيقية[2]، انبثقت معها رؤية جديدة عن الكون والإنسان والدين، متأثرة بالعلوم التجريبية التي وظفت المدرسة الوضعية مناهجها في تفسير أصالة الدين في المجتمعات البشرية، وصاغت على ضوئها دينا جديدا يتناسب مع الطور الوضعي للحضارة الغربية، فجاءت هذه السلسلة الموسومة بـ “جدلية الدين في الفكر الغربي الحديث دراسة تحليلية في ضوء المدرسة الوضعية” لتكشف عن التصور الوضعي للدين في الفلسفة الغربية، ولرؤية مدى إخلاص دعاة الفلسفة الوضعية في التنظير لتصورهم عن الدين وتنزيله على واقع الإنسان الحديث، وأول ما نبدأ به هذه السلسلة، السيرورة التاريخية والمناخ الفكري العام الذي مهد للقطيعة بين الدين في صورته الغربية والعلم.
فالنظرة الغربية الحديثة للكون والإنسان والدين لم تكن وليدة اللحظة، بل سبقتها سلسلة من المجاريات والأحداث التاريخية المتضاربة، التي أثرت في تكوين العقلية الغربية الحديثة، ورسم مساراتها الفلسفية والعلمية، لذلك فمن لم يعيي السياقات الفكرية المشكِّلة للشخصية الغربية الحديثة سيبقى في العتمة.
ففهم ما ذهبت إليه المدارس الغربية الحديثة بمختلف اتجاهاتها، في تصورها للدين وعلاقته بالفرد والمجتمع، لا يرتبط فقط بإحكام النصوص الفلسفية والإحاطة بفكر أصحابها، بل تدعو الضرورة العلمية إلى البحث والتنقيب عن تاريخ تشكل تلك المذاهب، ودواعي انبثاق تلك الرؤى النقدية عن أصالة الدين والتدين في المجتمعات البشرية، وتعالي نداءات القطيعة مع الموروث الديني في الفكر الغربي الحديث، فتوظيف المنهج التاريخي سيؤسس في وعينا صورة متكاملة الأبعاد وواضحة المعالم عن مدارات تلك المذاهب الفلسفية، ناهيك عن استقراء الجو العام الذي ترعرعت فيه تلك الأفكار وأينعت فيه تلك النظرة الجديدة للعالم، وهذا هو عين ما نبه إليه ليفي بريل في سياق كلامه عن فلسفة أوجست كونت قائلا: ” لا يكفي أن ندرس نص هذا المذهب حتى نفهمه على أكمل وجه ممكن، وحتى نقدر اتجاهه العام تقديرا صحيحا، وحتى ندرك الأهمية التي يعلقها كونت على أحد أجزائه الخاصة، بل يجب كذلك أن نقيم وزنا للظروف التاريخية التي ولد فيها والاتجاه العام للآراء المعاصرة، ولجميع العوامل التي أثرت في الفيلسوف”[3].
وعطفا على ما ذكرناه، سنبادر في هذه الورقات إلى معاينة الظروف التاريخية التي فجرت ما يسمى بعصر النهضة، وما أعقبه من أحداث متتالية نقلت الفكر الغربي من مرحلة تقليدية مرتكزها الدين إلى مرحلة حديثة مبدأها العقل ودستورها العلم، يقول ريتشارد تارناس موضحا التحولات العميقة في جوهر العقل الغربي: ” لم تعد المسيحية تبدو قوة محركة للمشروع الإنساني، ففي حضارة الغرب الراسخة والقوية في ذروة الحداثة، ليس الدين والإيمان، بل العلم والعقل، هما اللذان يقومان بدفع عجلة ذلك التقدم إلى الأمام، إرادة الإنسان، لا إرادة الرب، هي المعين المعترف به لأسباب تحسين العالم وتحرير البشرية الصاعد”[4].
هذه النقلة النوعية في الفكر الغربي من الإلهي إلى الإنساني، ومن الديني إلى العلمي، تثير قريحة التفكير والتساؤل عن طبيعة المرحلة التقليدية من حيث رؤيتها للعالم والإنسان ومركزية العلم، والجواب على هذا الإشكال يقودنا مباشرة إلى النظر في كتب الفلسفة والتاريخ التي عنت بدراسة تلك الحقبة المسماة بالعصور الوسطى، والتي عرفت صراعات شديدة التعقيد، وتجاوزات مشينة من أرباب الكنائس في حق الإنسان الغربي.
فباسم الرب ابتدعت الكنيسة صكوك الغفران، وباسم الوساطة الدينية ربط الإنسان المسيحي:” من مولده إلى مماته بالكاهن رباطا يمثل كوة مفتوحة على عالم الغيب، ولا يستطيع مهما كانت حرارة وجدانه أن يعقد صلة مباشرة بالله بعيدة عن سلطان الكاهن أو غير معرضة لتدخله في أي وقت من الأوقات”[5]، فهو لا يرى إلا بعيون الكهنة، ولا يتكلم إلا بما تمليه عليه الكنيسة.
ولم تقف سلطة الكنيسة وطغيانها عند الوساطة الروحية وبيع صكوك الغفران، بل توسع طغيانها ليشمل الفكر والعلم، فالدين هو الذي يحدد أغراض العلم ويسن نظم البحث[6]، وكل رؤية جديدة للكون مخالفة لما سطر في الكتاب المقدس ترفض ويتهم أصحابها بالهرطقة[7]، بل إن الشواهد التاريخية تحيلنا إلى ما مارسته محاكم التفتيش من حرق وتعذيب لجملة من العلماء الذين لم يرضخوا لخرافات الكنيسة، ولم ترضهم تفسيرات الكهنة.
فهذه الأحداث المتشابكة، والصراعات المتأججة بين الدين والعلم، أدت إلى ميلاد جديد لنهضة فكرية، وزيادة في “سخط الناس على ما لديهم من عقائد عتيقة، فأعلنت الحرب على كل نوع من أنواع السلطات، وطولب بحرية الفكر وأصبح الحق في نظر الناس ليس ما اعتبر حقا منذ قرون-ولا ما قال عليه فلان، وإنما الحق ما برهن عليه واقتنعت بكونه حقا”[8]، ورويدا رويدا بدأ انسلاخ الفكر الغربي من النظرة الدينية السائدة عن الكون والإنسان، حتى أعلن مارسليو فاسيو Marsilio Piofici عميد فلاسفة المذهب الإنساني في القرن 13م، أن الإنسان لم يعد خليفة الله في الأرض فحسب، وإنما شريكه في العلم والإبداع[9] –تعالى الله عن ذلك-.
ومع بزوغ فجر التنوير وتوالي الاكتشافات العلمية، افتتن العقل الغربي بالعلم، وتعالت نداءات الاعلاء منه إلى الحد الذي رفع معه المنهج العلمي إلى مرتبة ” طريقتنا المقدسة للمعرفة” كما عبر عن ذلك ألكس كومفورAlex Comfort[10]، فشهدت هذه الحقبة “موجة (عقلانية- علمية) عارمة، أعادت صياغة تصورات الإنسان عن السياسة والدين والفلسفة والمجتمع، وهي الحقبة ذاتها التي انبثق عنها منهج تشكيكي، بلغ حد الهوس في بعض الأحيان، في كل موروث، وشهوة نقدية لكل مقدس مهما عظمت حرمته في نظر الجماعة التي تؤمن به”[11]، فالسلطة العليا المطلقة الوحيدة لما بعد التنوير هي للعقل وحده، فهو الحاكم والمعتمد في صياغة رؤية الإنسان الحديث.
ومع انتهاء الثورة الفرنسية حل الإنسان محل الله، واسقط العلم -الذي لا يعترف إلا بالمادة- الحقائق الغير مادية من الرؤية الحديثة، واهتدى الغرب على حد تعبير رتشارد تارناس إلى دين جديد متمثل بالعلم والإنسان[12]، أضحى محرك المجتمع الغربي والمرجع الذي تحاكم إليه المعارف، وفي ظل هذا الدين الجديد صار العقل هو كنيسة البشرية أو كما قال توماس باين في كتابه (عصر العلم): “لا أومن بالعقيدة التي تتعلق بها الكنيسة اليهودية، أو الرومانية، أو اليونانية، أو التركية، أو أي كنيسة بلغها علمي، فقط عقلي هو كنيستي”[13].
في ظل هذه الأجواء العلمية المشحونة بالرؤى المناهضة للدين بكل تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، نشأت تيارات فكرية، ومدارس فلسفية، ساعدها المناخ العام في المضي قدما لبناء أفكار جديدة عن نشأة الدين وأصالة التدين في الفكر الإنساني، موظفة المناهج العلمية التجريبية في رسم الخطوط العريضة لمذهبها، ومن بين أهم هذه المدارس : المدرسة الوضعية في نموذجها الكونتي التي كانت لها رؤية خاصة عن الدين ونشأة العقيدة الدينية.، كما سنرى في الأجزاء المتممة لهذا التمهيد بإذن الله،
[1] دروس التاريخ، ويل ديورنت، ترجمة: علي شلش، دار سعاد الصباح، الكويت، ط1 (1993م)، ص(100)
[2] هذا الوصف يعود للكاتبة والفيلسوفة البريطانية آيريسموردوس، (ينظر: لماذا الدين ضرورة حتمية، هوستن سميث، ترجمة: سعد رستم، دار الجسور الثقافية، بيروت-لبنان، (بدون طبعة، بدون تاريخ)، ص(70)
[3] فلسفة أوجست كونت، ليفي بريل، ترجمة: محمود قاسم والسيد محمد بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة-مصر، ط1 ( بدون تاريخ)، ص(18)
[4] آلام العقل الغربي، رتشارد تارناس، ترجمة: فاضل جتكر، العبيكان، الرياض-المملكة العربية السعودية، ط1 (1431هـ-2010م)، ص (385)
[5] مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة-مصر، ط10 (2008)، ص(34)
[6] ينظر: قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمينوزكي نجيب محمود، ص(48)
[7] شنت الكنيسة حملة شعواء همجية ضد كل من قال بكروية الأرض، أحرقت من أحرقت وعذبت من عذبت، وهددت بتعذيب كل من لم يكف عن هذه الهرطقة التي تقول بكروية الأرض وإنها ليست مركز الكون بحجة أن التوراة قالت إن الأرض مستوية وإنها هي مركز الكون، والإنسان مركز الوجود، فأحرقت العالم الإيطالي جردانو برنو حيا، وسجنت العالم الإيطالي غاليليو. (مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، ص(50)، بتصرف)
[8] قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين وزكي نجيب محمود، ص(48)
[9] ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان، عبد الله الشهري، دار الكاتب، الإسماعيلية-مصر، ط2 (2016)، ص(44)
[10] لماذا الدين ضرورة حتمية، هوستن سميث، ترجمة: سعد رستم، دار الجسور الثقافية، بيروت-لبنان، (بدون طبعة، بدون تاريخ)، ص(30)، بتصرف
[11]نقلا عن ثلاث رسائل في الإلحاد والعقل والإيمان، عبد الله الشهري، ص(45)
[12] آلام العقل الغربي، رتشارد تارناس، ترجمة: فاضل جتكر، ص(382)، بتصرف
[13] المرجع السابق، ص(48)،بتصرف