تتقزّم الأوقات والأعمار أمام مارد الأحلام التي ننتظر تحقيقها، وننير في سبيلها كلّ شموع السّنين؛ أملا في الاحتفال بميلادها لحظات، دون دراية لبواعث استعدادنا أن نقدّم أعمارنا أضحية على مذبح تحقيق تلك الرّغبات.
نستعدّ لنيل ما نريد مدجّجين بكومات من الأفكار نطلقها في دروب المسير الطّويلة، لا نملّ ولا نكلّ كثرة المشي. نرسم ونخطّط، وأحيانا نعيش لحظة الإنجاز، وإن وهمًا، وتسكننا نشوة ذاك الخيال، وتسرقنا دغدغة المشاعر، وتسلب وقتنا أيضا. وقد نصحو على خواء وهباء الاحتضان. وتتناسل الخسارة مُنجبة نسلا يجرّدنا ممّا تبقّى من مخزون العاطفة والفكر، أو محوّلة مجرى النبع ليصبّ في بحر الغضب على ما تراءى لنا قيد الظّفر، وأضحى قيد القهر، فنشعر بحاجتنا لمعجزة تردّنا إلى الطّريق السّويّ؛ خوفا من بقاء الغضب ممسكا بيد العاطفة، وجارّا إيّاها نحو مسالك الانتقام من النّفس، التي يُخشى عليها تجميد سيولة التّفكير بكلّ جديد، وحجب ذاتها عن الرّؤى المستقبليّة والتّنويريّة للمحافظة على بقاء سليم.
قد تُلقي الحياة في دروبنا زهرة جميلة، فتجرّنا تلك الزّهرة للتفكير بولوج بستان، فنبدأ بالهرولة وراء الرّائحة التي أزكمت أنوفنا هنيهة؛ كي نحظى بأريج زهرات دهرا. ونحرص أشدّ الحرص على إروائها ومنع ذبولها؛ لتأتي بالكثير من مثيلاتها، ونكسب البستان الذي ستزهر به الآمال، وتنمو في تربِهِ فسائل الأحلام. فيباغتنا الذّبول، ويداهم الإيناع الذي عشناه وهمًا، وسقيناه ودّا، ويبقينا على قارعة الدّهشة بعيون حيرى، وقلوب تلتاع. ويتخرّم حرير أحلامنا بشوك ذاك البستان الوهميّ، وتظلّ مشاعرنا رهن عرك رحى الخذلان، متمنّية غسل ذكرى الإحباط بماء النّسيان، وغير مدركة لما تهدره من سنين وأيّام، وهي تغزل على نفس المنوال.
قد نخطّط ونبذل في سبيل التّنفيذ جلّ ما ملكت أيادينا، وعصارات أذهاننا، وسيول مآقينا؛ أملا أن تزهر لنا الدّنيا وتنضج ثمار الأمنيّات. وحين الجني يرقص القلب، وتعزف أوتاره أجمل الألحان، وتأتي الفرحة حاملة صاحبها على جناحَي بلبل النّشوة، فينسى المنتشي تعب وحرق وقود الأيّام والليالي، ويعيش اللّحظات ويتباهى بها. وبعد قصير وقت، تعاف نفسه ما اعتادت عليه، وما باتت فيه، فتراه قد امتطى مطيّة الضّجر، وصار يطلق رشقات التّذمّر من جعبة سهام الملل والتّأفّف. وإن ذُكّر بما عانى وشكا لتجسيد ما ابتغى، تجده ساخطا كارها الملام، حابكا حبال سخطه جديلة يلقي بها على ظهر العتاب؛ لتظلّ محبوكة بدبابيس الشّكوى وأشرطة التّذمّر. وربّما بدأ في الوقوف بمحطّات انتظار جديدة لاعتلاء حافلة أمنيّة أخرى، ويظلّ في سفر وانتظار.