بين غمامتين
غَيرُ بَعِيدٍ مِن الجَانِبِ الإِنْسِىِّ مِنْ صَفحَةِ الذِّكْرَى ، وَعَلى قَابِ شَهْقَتِينِ مِنْ حَنِينٍ ، أَمْسَكَ الخَيَالُ بِرِيشَةِ الشَّوقِ يَرْسُمُ فِي شُجُونِ السُّهْدِ بَهْجَةَ طَيفٍ لَطِيفٍ ، وَيَنْسجُ مِنْ شُؤُونِ الوَجْدِ عَوَالِمَ مِنْ حُلُمٍ مُسَافِرٍ إِلى حَيثُ لا وَاقِعَ يُوقِظُهُ وَلا رَادِعَ يَعِظُهُ وَلا صُرُوفَ تُرْهِقُهُ بِرَسْفِ زَمَانٍ أَو مَكَانٍ. هِيَ صَفْحَةٌ تُزْهِرُ الدُّرُوبُ فِي رَبْوَتِهَا بَسَاتِينَ لَوْزٍ وَكَرَزٍ ، وَتَعْبَقُ الغُيُوبُ فِي رَوْضَتِهَا رَيَاحِينَ نَرْجِسٍ وَيَاسَمِين ، وَتَتَعَانَقُ القُلُوبُ فِي صَبْوَتِهَا تَعَانُقَ نُورٍ وَنُوَّارٍ وَتَصَافُحَ زَهْرَ تُفَّاحٍ وَجلَّنَارٍ. وَعَلى حِينِ بَسْمَةٍ مِنْ أَنِينٍ تَتَسَرَّبُ فِي خَلايَا الصَّمْتِ رَجْفَةُ تَوْقٍ وَلَهْفَةُ حَنِينٍ ، تُمَسِّدُ تَجَاعِيدَ الـمَشَاعِرِ بِكَفِّ الهَمْسَةِ الحَانِيَةِ أَنْ لا حَياَةَ إِلا بِكَ فَاتَّخِذْنِي.
إِنَّهُ الحُلُمُ أَيَّتُهَا الحَبِيبَةُ ؛ يَسْكُنُنَا حِينَ نَغْفُو ، وَنَسْكُنُهُ حِينَ نَصْحُو. يُغرِينَا لِنَغْرَقَ فِي عَمِيقِ بَحْرِهِ طَلَبًا لِلنَّجَاةِ ، وَيُغْوِينَا لِنَغْبقَ مِنْ بَرِيقِ سِحْرِهِ أَمَلا فِي الحَيَاةِ ، وَيُؤْوينَا لِنُطْرِقَ فِي جَلِيلِ صَمْتِهِ عَوْذًا مِنْ عِيِّ اللُغَاتِ، وَلا يَنْفَكُّ يَحْمِلُنَا بِأَجْنِحَةٍ شَفِيفَةٍ إِلى آفَاقٍ مُمْتَدَّةٍ مِنْ أُمْنِيَاتٍ حَائِرَةٍ ، وَاحْتِدَامَاتٍ بِالعِشْقِ ثَائِرَةٍ ، وَابْتِهَالاتٍ مِنْ بَقَايَا شَفَقٍ حَزِينٍ.
وَإِذْ سَأَلْتِنِي ذَاتَ بَوحٍ عَنْ رَسِيسِ التَّوقِ فِي قَلْبِ وَامِقٍ ، وَحَسِيسِ الشَّوقِ فِي صَدْرِ عَاشِقٍ ، فَجَعَلْتُنِي أَعْصرُ مِنْ شِغَافِ القَلْبِ أَعْنَابًا مِنْ غَرْسِ حَنَانِكِ ، وَأَسْكُبُ فِي أُذُنَيكِ سُلافَ هَمْسٍ مِنْ رِقَّةِ جَنَانِكِ ؛ حَتَّى إِذَا ادَّارَكَ فِي النَّفْسِ بَهِيُّ حُضُورِكِ وَبَهِيجُ اقْتِبَالِكِ تَاهَتْ بِيَ الكَلِمَاتُ تُلْهِينِي ، وَهَامَتْ بِيَ النَّبَضَاتُ تُوهِينِي ، فَلا أَزَالُ عَلَى أُرْجُوحَةِ الحُلُمِ عَاكِفًا تَهُزُّنِي بِالخَصْبِ حِينًا وَتَؤُزُّنِي بِالجَدْبِ حِينًا ، أَنْهَمِرُ مِلْءَ كَفَّيكِ اشْتِيَاقًا وَأَنْتِ بَينَ يَدَيَّ فَرَاشَةٌ حَائِمَةٌ عَلَى قَنَادِيلِ الرُّوحِ.
وَإِذْ سَأَلْتِنِي: مَا الحُبُّ إِلا أَنْ يَكُونَ نَقَاءً وَوَفَاءً وَلِقَاءً وَعَطَاءً؟ مَا الحُبُّ إِلا أَنْ يَكُونَ أَنْتَ؟
وَأَقُولُ: الحُبُّ فَوقَ ذَلكَ كُلِّهِ بِلْ هُوَ فَوقُ الحَيَاةِ وَدُونَكِ ؛ ذَلِكَ أَنَّ لِلحَيَاةِ أَجَلا تَنْقَضِي بَعْدَهُ وَلِلحُبِّ الصَّادِقِ سِمَةُ الخُلُودِ وَمَعْنَى الوُجُودِ ، وَهُوَ عَلَى غَيِرِ سَمْتِ الحَياةِ لا تَحِدُّهُ حُدُودٌ وَلا تُقَيِّدُهُ قُيُودٌ. الحُبُّ إِنْ صَحَّ غَدَا جرْمًا نُورَانِيًّا يَدْنُو لِيُرَبِّتَ بِرِفْقٍ عَلَى كَتِفِ الرُّوحِ يَبْعَثُهَا مِنْ غَيَاهِبِ الانْطُواءِ ؛ يُطَهِّرُهَا وَيُحْيِيهَا مِنْ جَدِيدٍ.
أَتَذَكَّرُ إِذْ قُلْتُ لَكِ يَومًا وَقَدْ بَلَغَ مِنِّي الشَّوقُ مَبْلَغَهُ وَأَنْتِ أَمَامِي ؛ أَمُدُّ يَدِي فَأَلْمِسُكِ ، وَأُغْمِضُ عَينِي فَأرَاكِ ، وَأَهِمُّ بِكِ هَمَّ شَوقٍ فَتَهُمَّينَ بِي هَمَّ رِفْقٍ: سَأَخْطِفُكِ إِلى عَالَـمٍ مِنْ حُلُمٍ أَبْنِي لَكِ فِيهِ قَصْرًا مِنْ سُرُورٍ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ نُورٍ ، وَأَمُدُّ لَكِ مِلْءَ خَاطِرِي غَابَاتٍ مِنْ شَجَرٍ وَزَهَرٍ وَأَنْهَارٍ مِنْ زُلالِ مَشَاعِر وَسَلْسَبِيلِ خَوَاطِر ، وَأَفْجُرُ لَكِ مِنْ بُرُوجِ الحَرْفِ ينْبُوعًا ، وَأُهْدِي لَكِ بُحَيرَةَ َإِوَزٍ وَبَجَعٍ نَلْهُو عَلى شُطْآنِـهَا وَنُمَارِسُ فِي دَهْشَتِهَا طُقُوسَ العِشْقِ جُنُونًا وطُهْرِ الحُبِّ فُنُونًا.
وَضَحِكْتُ ؛ إِذْ كَيفَ لِمَخْطُوفٍ بِلا فِدْيَةٍ أَنْ يَخْطفَ ، وَكَيفَ لِمَسْلُوبٍ بِلا مِدْيَةٍ أَنْ يَسْلبَ ؛ إِلا أَنْ يَكُونَ هَذرًا مِنْ حُمَّى الفَقْدِ النَّاظِرِ وَفَرَقِ الأَمَلِ النَّاضِرِ وَلَهْفَةِ الانْتِظَارِ لِـحُلُمٍ آخَرَ قَرِيبٍ!
فَيَا أَيَّتُهَا الرُّوحُ السَّاهِرَةُ فِي ضِيَاءِ لَيلِهَا الـمُغْدِقِ، الزَّاهِرَةُ فِي فَضَاءِ نَجْمِهَا الـمُشْرِقِ: إِلا مَ هَذَا المَوتُ عِشْقًا فِي سُكُونٍ ؛ كُلَّمَا دَنَوْتِ زَادَكِ القُرْبُ نَأْيًا ، وَكُلَّمَا حَدَوتِ سَامَكِ الدَّرْبُ لأْيًا ، وَتَظَّلُ تَخْتَبِئُ الـمَلامِحُ بَينَ غَمَامَتِين.