لفـــته في قماط أبيض ، وقلبها ينفصل عن جسدها كما تنفصل الورقة عن الغصن ، قبلته بحرارة ، دغدغت خده الصغير بلطف، مسحت دموعها بكمها ، فأخرجت صهداً حاراً من جوفها..
ظهر الأمهات موطن الأمن والسلام .. أحس بدفء نادر، ونام نومة هادئة … بخطى ميتة تذرع أركان البيت ، تقلب الزمن بين أيديها، تحصي الأيام البالية..
فركت يديها ، أصابها بلل تحت إبطيها ، برودة يابسة تلسع جسمها، دبيب خوف ينهش قلبها .. أطلت من النافذة، ظلمة خانقة لا زالت تجتاح الحارة .. الشارع الطويل خال من البشر، بعض سيارات الأجرة الصغيرة تمر بين الحين والآخر تقطع عليها خطـية التفكير ..
تجس الحارة بعينيها . صبح جديد يتنفس بصعوبة ، يمد أنواره إلى أبعد نقطة ، والظلام يندحر على مهل . أسرعت في خطاها ، أنفاسها ترتجف ، سارت وسارت ..؟
سور متهرئ يحكي قصة تاريخ أمم غابرة ، سخرت منه الرياح والأمطار، أكـلت أعلاه .. تعرية واضحة ، على طول امتداده تتشكل فيه ثقوب صغيرة دائرية يتنفس منها باستمرار ، في أسفله أعشاب برية تصارع الضباب الأبيض، في لطف تفضفض أوراقها رياح عابرة ..
وضعته بيـن أعشاب يابسة قتلتها حرارة الصيف . التراب يتنسم رائحة قماش أبيض . نظرة سريعة خرقت جسمه البض ودموعها تعرقل مقاطع كلامها:
ـــ ترى .. ابن من أنت ..؟ لماذا جاءت بك الأيام خلسة في ليلة حمراء ..؟
الرضيع يحصي الدقائق ، تحسست قلبها ، صفعت خديها كأنها تكفر عما جنت من خطيئة سوداء .. الفؤاد يرتبك ، الكلمات تتعطل في حلقها، خواطر سيئة تتقاذفها.. ما تتمناه أن يكون بين أياد أمينة .. أن يعثر عليه أحد بسرعة.. تريده أن يحيا ، أن يشب ويرزق ، أن يأكل من ثدي امرأة أخرى .. تـلعن زمن الخطايا في نفسها ..
خلائق كثيرة تكسر سلطة الأخلاق ، بدون حياء تشتري اللذة وقت ما تشاء .. صورة الذئب الماكر لم تنمح من ذهنها .. نهش صدرها .. دغدغ جسمها مجاناً .. بدون حياء ، تردد أمام الجيران : الأب مسافر إلى ما وراء البحر ..؟
خلف جدار منزل تخبئ جسمها في توجس .. رأسها يبرز بين الحين والآخر.. تسرق النظرات .. تصب على نفسها لعنة قاتلة ..
تنبش الماضي ، تستحضره .. كانت تساوم بجسدها الزبــناء .. تـتمرد على أعضائها المخبوءة .. سوق الأجساد الفاسدة فضفاض ، يطلبها بحدة .. الخطيئة تنام معها .. ذئاب بشرية تتقاذفها من يد إلى يد دون رحمة ..؟
سخر الزمن منها ، شهد عليها وهي تقـتل جسمها .. لاكت بين شفتيها كلمات وقالت في هسهسة ميتة :
ـــ من أنا ..؟ لست أنا كما أريد ..؟ لم أعد أعرف نفسي ، غادرت الثانوية مبكرا ً، وجئت من البادية إلى المدينة أبحث عن عمل ، فتهت بين أحشاء الشوارع .. كل الرجال ذئاب يأكلون لحوم النساء بالشوكة والسكيـن ..؟ يتذوقون النشوة على مهل ، يستمتعون ، يتلذذون .. يديرون ظهورهم بعد الشبع ..
تذكرت يوم كانت تبتسم في وجه كل زبون تخلى عنه الزمن ، جاء يدس مشاكله اليومية في كؤوس الموت البطيء ، تفرغ له وتحثه على المزيد .. تعانق الليالي الحمراء .. ترتع بجوارحها في الخطيئة السوداء ..
لفت دماغها سحابة سوداء ، امتصت أفكارها، باتت اللذة في عينيها مرارة ، حنظلا يابساً تتجرع سمه وحدها .. دقائق تعتصرها وأخرى تقودها إلى الاستغراب..؟ كيف سمحت لنفسها أن ترمي ولدها كنفاية ، بدون اسم .. بدون أب .. بسهولة تخلصت منه .. نادراً ما يكون قلب الأم قاسياً .. لكنها لم تستطع أن تدحرج الصخرة إلي النهاية .. اختلط عليها الأمر ، فبقيت شديدة الحذر والتوجس ..
وقت قصيـر يمر، لمع بريق أمل من السماء ..؟ رجل يثير انتباهه أن شيئاً ما يتحرك داخل ملفوف قماش .. اقترب منه أكثر .. جفل من ظله ، انتفضت ملابسه ، تسارعت أنفاسه ، كاد قلبه يخرج من صدره ..
ـــ ما هذا ..؟ صبي ..؟ كيف حصل هذا ..؟ ابن من يكون ..؟ حاول أن يحمله بين يديه ، لكنه تراجع .. نظر هنا وهناك ..لا أحد .. صاح يلعـن البشر .. يردد : ما هذا بـزمان ..؟
جوقة كبيرة من الناس تجمعت .. تطلب اللطيف ، الزلزلة قادمة لا محالة..؟ آخر يقول : الراجفة قريبة منا ولا ندركها ، بدأت الجمل تتناسل على ألسنة الناس : مجرمة .. قاتلة، دون ضمير .. ما عهدنا بهذا ..؟ تستحق الرجم .. ما هذه بأم ..؟
امرأة تتحدث مع جارتها في هسْهسة : ما هذا برجل ..؟ أيقـتل الرجل شهوته الجنسية سراً وراء الحلال ، ولا يعترف بولده ..؟
سيارة إسعاف عنت في رأس الشارع تتلكأ في سيرها ، تخرج من بطنها جعجعة تصك الآذان ، وتنفث دخاناً يابساً يتلوى بين الجدران .. الجماعة تفسح لها المـــجال .. ممرض يتقدم نحو الرضيع ، يحمله بين ذراعيه ، يحملق في الوجوه .. مدده فوق سرير أبيض . الرضيع يحرك شفتيه يطلب لبناً ، فتح عينيه يتـفحص الأغراب ، انكمش وجهه استعداداً للبكاء والصراخ ..
امرأة تسرع بقارورة رضاعة مملوءة عن آخرها… ينسى الناس خلافاتهم عندما تحل بهم كارثة مؤثرة .. امرأة أخرى تهش بيدها لتطرد الحشرات الراقصة حوله، تندد في صمت بالحدث الفظيع..؟
الرضيع يمتص السائل الأبيض في تؤدة، بين الحين والآخر يتوقف عن المص، رحلة الامتصاص تستمر، والدقائق لا تتوقف .. أغمض عينـيه ونام غير مبال بشيء .. وما ينتظره من مصير مشكوك فيه .. ساعة بعد نقـل الطفل إلى المستـشفى، الموظف المكلف بالمداومة يدون في كناشه الأسود معلومات ناقصة ..
الأم تطوف بيـن أروقة المستـشفى ، تسأل بكيفية ملتوية .. مضت ساعات وتبعتها أخرى .. لم تر سحابة أمل في الأفق .. قلق همجي يزيد من قتامة زمنها الهارب ، بعينيها تتهجى سطور الأيام السوداء ، تتنصت على دقات قلبها وهو يختنق تحت وطأة انفعال حاد ، امرأة خسرت نفسها ، ضيعت ولدها ، سقطت الدنيا منها ، رمتها الظروف خارج التغطية الأسرية ، فتبخرت حياة مولود أطل على الدنيا كرهاً ، سوف يقود صخرة زمانه وحيداً..؟
أصبح الشارع مسكناً لها ، تحمل في يدها دمية عارية ، مبتورة الأعضاء .. حمق عنيف يستـل عقلها في لطف ، يقـتل حياتها الخالية.. والحمق سيد الغضب السريع ..
تجوب شوارع المدينة .. دون كـلـل تضرب على دف مقعـر…عندما يصيبها هيجان الغضب الشديد ، يتجوق عليها الأطفال .. ينادونها بالحمقاء، فلا تـنزعج ولا تـتبرم ، تبتسم ابتسامة ساخرة .. تقدم لهم الحلوى على اختلاف أنواعها .. منهم من يأخذها بحذر.. ومنهم من يهرب منها.. تتوقف عن المشي ، وبأنفاس متصاعدة تنادي بأعلى صوتها : ياناس.. أين ولدي ، أين ولدي ..؟
رمت بنفسها إلى التهلكة حين انجرفت بمشاعرها الغرائزية فأودت بحياتها إلى المهالك فكانت نتيجة خطيئتها طفل بلا مأوى ولا أسرة وحيدا في دنيا تجردت تقريبا من الرحمة . اشكرك على النص الباذخ والواقعي الذي سردته لنا بشكل مشوق وباهر .. تقديري