أدبنثر

ذكريات من صفحات الحياة

خرجت إلى الحياة في اليوم الثاني من أيام الشهر الرابع من سنة 1976 للميلاد، كما يخرج كل مولود في عافية تامة وصحة جيدة.

وكان مسقط رأسي حيا من أحياء مدينة عتيقة من مدن بلاد المغرب، داخل أسوارها الشامخة التي تحفظ تاريخ بطولات وأمجاد تلك المدينة على مر التاريخ.

مراكش الحمراء.. عروس الجنوب. في أحد أحيائها ولدت.

على فراش متواضع، وبيت متواضع، وأهل تعليمهم جد متواضع.كل ما ترعرعت فيه وما حولي متواضع.

دور متداخلة تعانق بعضها بعضا كما هو غالب قلوب أصحابها بينهم

وأزقة ضيقة طويلة ممتدة متفرعة لكن لا منفذ لها ولا مخرج تماما كما هو طموح سكانها.

بناء من خام الطبيعة، عليه من التصنيع ما يفي بما يكفي للحياة، تماما كحالهم في مدارك العقل والفكر، فالأحياء القديمة تتسم ساكنتها بالتآلف والترابط الاجتماعي، والتعاون والتناصر، لكنها أمام هذا الغنى والثراء الاجتماعي فقيرة من العلم والوعي سواء الديني أو الدنيوي.

ترتيبي كان الثالث، من سبقني إناث ثم لحقني على أخرة صغير غمر فيما عشناه بعد، ثم قضى الرب في علاه أن يكون أولنا ارتحالا عن هذه الفانية فاللهم ارحمه واصطفه.

أمي هي أمي حقا حنانا وعطفا، لها في قلبي مكان ركين، راعيتي ومؤنستي.

إن أظلم كل شيء أنارت، نظرتها لا تفارقني، تبعث في نفسي الأمل وإن كان حلما، تراني أفضل مما أرى نفسي بل وإن كنت غير ما تراه.

تراني أستحق الحياة والدعم والمساندة.

فمحبة الأم محبة صادقة لا يعتريها تظاهر ولا نفاق، إن أحبت أحبت صدقا، وكذلك الأم دائما تكون.

لي أعمام ستة نعيش معهم في منزل ضخم كبير الباحة حتى أن أبناء العم يتخذون منها ملعبا لأصناف من اللهو.

لم يتزوج آنذاك من أعمامي إلا الأكبر فيهم، وأبي هو تاليه في السن لذا كان زواجهما في يوم واحد، اقتصادا لمصاريف الزواج.

ولي أخوال أربعة يزوروننا بين الفينة والأخرى، لطفاء جدا، أخلاقهم جميلة، وكلماتهم مضبوطة موزونة.

أدركت جدتاي وجد لأمي.

هذا مجمل المشهد والمرأى البعيد للزمان والمكان بل للصفحة التي ستحمل ما يأتي من الأحداث.

ولا شك أن لجو هذا عبيره، ولحال هذا وصفه وتقديره، لبصمة رسمت معالم حياتي من بعد، وخطا عليه نسجت خيوط تلاقت لتخط ما سطر في عالم الغيب على صفحات الأيام والليالي

فكانت بصمة لا تنسى.

»»»»»»»»»»

خط الحياة خط مليء بما ينوء هذا الخط عن حمله، تضغط أنفاسه على أنفاس صوت الحياة، فتحيله حينا همسا وحينا لا يبقى منه إلا صوت المشهد يقرع على طبول القلب المتكسر.

صوت هادئ. تتلاقح فيه الأشجان والأحزان بالذكرى..

حكاية الماضي اجترار لكِلام الحياة. وشاهد على تقلبات مجرياتها.

حكاية الماضي إحساس بالزمان عميق، حكاية لما كنت ترقبه ثم عشته ثم مضى.

وحين رفعت ريشة جناني بين أنامل هذا العالم (الافتراضي) لأخط ما مضى، كنت كالذي يكتب عن اليوم الذي هو فيه وعن غده الذي يرقبه.

تلاشى الإحساس بتباين الزمن، تشابك فيه ماضيه بحاضره ومستقبله بلحظة تعيشها جوانحي الآن. صارت ومضات متداخلة متماسكة. تضيء ليلي بشعلة الترقب، وتملأ أجفاني بعبرات الحنين.

بساط نسج بخيوط القدر، وفؤاد تترنم نبضاته بأنغام الرضى.

»»»»»»»»»»

استيقظت على يدها الحانية وصوتها الرخيم: “كفى نوما حان الوقت يا بني”.

كنت آخر من ترك فراش النوم، فالمنزل ممتلئ نشاطا هذا الصباح بعد عطلة الصيف.

دق الباب.. فإذا صديقي على الموعد تماما.

أعدّتني الوالدة سريعا وضعتني على الكرسي المتحرك بمساعدة صديقي كالمعتاد.

خرجنا من المنزل يقود بي وسط طرقات ازدانت جمالا بالصغار من أسناننا.. وقد تخللتها خيوط الشمس المتلألئة.

اقتربنا من باب المدرسة..

آه.. نسيت إخباركم أنه أول يوم من عامي الدراسي للخامس ابتدائي.. لكنه أيضا كان اليوم الأول لآخر عام لي طويت بعده رحلتي بالتعليم النظامي.

دخلنا الباب ووقفنا في صفوف متراصة ننتظر بيان أماكن فصولنا الدراسية وكل أملي أن يكون معي صديقي في نفس الفصل فذاك يعني لي آنذاك الكثير.. وقد كان كما رجوت.

ولجنا قاعة الفصل والفرحة تغمرني بالعام الجديد واليوم الأول، مع ما أراه يعلو الزملاء من تخوف لما عُهد عن معلم هذه السنة من الحزم والقساوة التي لم أهتم لها كثيرا مقارنة بما جذب إعجابي له لشهرته في جودة التدريس.

أقامني صاحبي بين الصف الأول والثاني وجلس في المقعد الذي من جهتي من الطاولة. فقد اعتدت أن أدرس وأنا على الكرسي المتحرك حاملا عليه طاولة صغيرة لأكتب عليها.

وبينما الضوضاء تعلو المكان والكل يتداول الحديث عن العطلة ومجرياتها ويحكي أحداثه ورحلاته ومغامراته…

إذ وقف على الباب رجل يملأ الباب طولا

نحيف

شديد الأدمة

معروق الوجه

جعد الشعر

غائر العينين

حسن الهندام

مقبول الشكل عموما

لديه إعاقة خفيفة برجله اليمنى، يتوكأ في مشيته على عكاز في تمايل ترافقه نظراته الحادة ومحياه البارد. كأنه قُد من نسيج يباين مشاعر الحياة.

فبادره جميع التلاميذ بإلقاء التحية المعتادة باللغة الفرنسية. ثم دخل..

فما إن تجاوزت قدماه الصف الأول حتى توقفت حركاتها أمامي، فرفعت نظري إليه.. وقد علته علامة استغراب قد اعتدت عليها.. لكن لم يكن سببها هذه المرة ما عهدت.

وإن كان من طبعي النسيان.. فلا أنسى نظرته تلك.. وبطرف عينه فقط.. رافعا أصبعه.. مشيرا إلي بها تارة وإلى وراء القسم تارة.

وأشاح بوجهه قائلا: “ارجعوه إلى الخلف”.

لم أسمع بعد كلماته إلا ضجيجا.. وارتجاجا يضرب بطبوله الصاخبة، لم أع بعدها سير الأحداث حولي..

لا أدري ما حل بنفسي في تلك اللحظة من انطباع لم ينو الرحيل عن جوانحي إلى الآن.

كم هي المواقف التي لا تعدو في ميزان الزمن لحظات موقوتة، لكنها تتمدد بأثرها باسطة ظلالها بقوة على حياتك في دنيا الناس.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى