أدبقصة

احتراق

لم يأت إلى السرير مبكراً كعادته، لم تسمع أنفاسه. نهضت، توجهت نحو مكتبه، ضوء خافت يطارد صمت الجدران، وجدته جالساً أمام مكتبه، يتلاعب بالقلم بين أصابعه، ينتظر حبة الأسبرين في الكأس وهي تصارع الفناء. والورقة البيضاء ما زالت تنتظر الكلمات.
وقفت أمامه متصلبة، نظر إليها بعمق، بحدسها عرفت أن ظنوناً ملتوية تستفز ذهنه، تقاتل أفكاره. هواجس يابسة تنزلق عبر اللحظات دون أصوات.
انتفض، ارتعد جسمه من تحت ملابسه، غرز عينيه مرة أخرى في جسمها، في لحمها، في عينيها. ود أن تقول شيئاً، لكنه تصنع هدوءاً ماكراً فرمى في وجهها كلاماً طائشاً وقال:
ــ بدأت فئران الخلاء تتسلل إلى البيوت هذه الأيام بدون حياء، تنتشي بالقلوب وتأكل الأجساد.
ـــ كيف؟ ماذا تقصد بكلامك؟ توقف، انظر إلي!
مضغت الكلام، انفجرت ضحكاً، انتزعت ضحكاتها من سخرية جارحة، تهاوت على أريكة سوداء. لوت رأسها بين ركبتيها. اللحظة تخنق أنفاسها، فتوزع قلبها بين البقاء والرحيل.
رجعت إلى سريرها والظلام يغلفها، جلست على حافته. أصاخت بأذنها، سمعت خشخشة أوراق، انتفضت. من وراء الباب سمعته يولد ممرات قاتلة بين القلب والوجدان، بين الحياة والموت.
فزعت ارتابت. أطلت من النافذة، تدلت برأسها نحو الأسفل، لا أحد. ضباب بارد يبلل أرضية الشارع الفضفاض، قطط تائهة تتنازع عن المكان. أحست بسخونة تغزو كل جسمها، فانهمرت دموع دافئة تضايق حواشي جفنيها. فطنت بخشخشة ملابسه تملأ المكان، استدارت.
ضغط بقوة على زر الكهرباء، حدق فيها، تيقـنت أنه يتلو تراتيل الموت في نفسه، تراتيل صامتة تختزل الكلام، رمى في وجهها ظرفاً مغلقاً بإحكام.
– ما هذا؟
انسل في هدوء خارج البيت. حاولت اعتراضه، لكن غضبه كان أقوى من خطواته. أطلت من النافذة مرة أخرى، لا حركة ولا خشخشة. أسندت ظهرها على الجدار وهي تنصت إلى نبضات قلبها.
فزعت، خرجت مسرعة تلاحقه بكلمات نابية. رأت سيارتها تحترق على مهل، وصورة عشيقها بين يديها وهو يبتسم.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى