فنونمسرح وسينما

المسرح الفلسطيني والهوية

لا يمكن الحديث عن المسرح الفلسطيني وهويته بمعزل عن التاريخ المعاصر للشعب الفلسطيني، وعن الجغرافيا التي احتضنت التجمعات الفلسطينية الكبرى على أرض فلسطين التاريخية، وفي مخيمات اللجوء في الوطن العربي والمنافي. ولا يمكن الحديث عن هذا المسرح بمعزل عن العواصف التي هزّت حياة الفلسطينيين على مدار المئة عام الماضية، وعن النكبة التي حوّلت وطناً وشعباً إلى قطع منفصلة وتجمّعات كبيرة تقاوم محاولات تفسيخها، وتمزيق نسيجها الاجتماعي، وإذابة هويتها، وخنق روحها في معازل وسجون كبيرة، ولا يوحّدها سوى العذاب والحلم والأمل.

هذا الواقع بما اكتنفه من ثورات وانتفاضات ومواجهة مستمرّة، ولّد في لحظات المدّ آمالاً كبيرة، وفي لحظات الانكسار والانحسار خيبة واحباطاً. كما خلّف مناخاً يتّسم باليأس حيناً وبالتفاؤل أحياناً، سواء لدى من تم نفيهم إلى مخيمات اللجوء، أو من صمدوا في أرضهم وقاوموا وحشية المحتل. وهو واقع فرض على الأفراد والجماعات توتراً دائماً وصراعاً داخلياً مستمراً بين حالة الأمل وحالة الخيبة. فالفلسطيني الباحث عن هويته والمتمسك بها داخل الوطن، كان يعاني الضغوط الهائلة التي تضعه أمام خيارين؛ القبول بالاحتلال كأمر واقع والخضوع لسياساته وإجراءاته، أو مقاومته وتحمّل النتائج القاسية. أما الفلسطيني خارج الوطن، فهو أمام قبول الاندماج والذوبان في المجتمع الذي نفي إليه، أو رفض الاندماج والتمسّك بهويته والانتماء لوطنه، وتحمّل العواقب.
هذه الازدواجية التي فُرضت على الفلسطيني في الوطن، كما في الشتات- مع الفروق بين كل منهما- خلقت حالة المنتمي واللامنتمي؛ حالة الذات التي تذوب في محيطها الذي تعيش فيه مرة، والانفصال عنه بحدة، مرة أخرى. ازدواجية الولاء، بالانتماء وعدم الانتماء التي طالت كل الفلسطينيين أينما كانوا، عكست نفسها على المبدعين وبشكل صارخ. فكثير من الفنانين تمسّك بهويته قولاً وفعلاً، وعدد منهم كان ينكر هويته الحقيقية، أو «يتناساها» أحياناً. فبين اليأس والأمل، ظلّت مسألة الهوية كحالة وجودية ملتبسة لا فكاك منها، ترسم صورة الفلسطيني الذي يؤرقه وضعه الوجودي.

المسرح قبل النكبة وبعدها
المسرح الفلسطيني الذي كان منذ مطلع القرن العشرين يشقّ طريقه ويسعى للتجذر في الحياة الفلسطينية، مستفيداً من الأنماط المسرحية التي كانت تعرض في المدارس التبشيرية، والمسرحيات التي تستقدمها قوات الانتداب البريطاني، وعروض الفرق المسرحية المصرية، بدأ ينتشر من خلال الأندية والجمعيات كحالة من حالات التعبير عن النهضة، وانبعاث الشعور بالقومية العربية في مواجهة الاحتلال البريطاني، وأمواج الهجرة اليهودية والخطر الصهيوني. فالوعي السياسي والاجتماعي لرواد المسرح الأوائل، والنضج التدريجي لفهم الوظائف الأيديولوجية والجمالية للمسرح، ودوره في إمكانية تطوير الثقافة الوطنية، هو الذي قاد المسرحيين الفلسطينيين قبل نكبة العام 1948 لكسر طوق العزلة الجغرافية، والتخلف الثقافي، والتحذير من الخطر المتنامي للمشروع الصهيوني. فمنذ وقت مبكّر، تلمّس الرواد الأوائل الحاجات الملحة لتغيير الواقع الاجتماعي ومقاومة الاحتلال، فترجموا نصوصا عالمية، وطبعوا نصوصهم الأولى، وكتبوا عنها في الصحف. وبدأت العروض تنتقل من المدارس وساحات الأديرة، إلى الشوارع والمقاهي والأندية في المدن الفلسطينية.

العمل المسرحي بدأ ينتقل من العفوية والارتجال، إلى العمل المنظم والقريب من الاحتراف. فإلى جانب ترجمة وتقديم مسرحيات عالمية مثل مسرحية «هملت»، ترجمة وتعريب طانيوس عبده وإخراج جميل إلياس خوري، التي قدمتها فرقة «الكرمل» عام 1944، وشاركت التمثيل فيها نساء، برز كتاب ومخرجون فلسطينيون أمثال خليل بيدس وأنطوان الجميل وفرح أنطوان، واشتهرت مسرحياتهم «وفاء العرب»، و«طارق بن زياد»، و«صلاح الدين الأيوبي»، التي قُدّمت في القدس وعدد من المدن الفلسطينية في العام 1914.
عشرات الجمعيات والمنتديات والمدارس الوطنية والفرق المسرحية بدأت في نشر هذا الفن وإعطائه هوية من خلال الموضوعات السياسية والاجتماعية والإنسانية التي تقدمها. وكلما كانت المخاطر التي يفرضها التمدد الصهيوني والاحتلال البريطاني تكشف عن هول الخطر الزاحف، كانت موضوعات المسرحيات تركز على حماية الأرض والتحذير من السماسرة، وتحضّ المواطنين على مقاومة الاحتلال، مستلهمة من التاريخ قصص الأبطال وتضحياتهم من أجل الوطن ورفع الظلم عن المقهورين.

كانت جهود العاملين في المسرح الفلسطيني الذي وصل إلى مراحل متقدمة قبل النكبة، بمثابة بدايات مهمة تُبشّر بمسرح متقدم. فقد استفاد رواد وهواة المسرح من مشاهدة المسرحيات الأوروبية الوافدة بصورتها الناضجة شكلاً ومضموناً، كذلك المسرحيات المقدمة في المدارس الأجنبية. كما استفادوا من مشاهدة العروض المسرحية، وطريقة التمثيل التي كانت تقدّمها الفرق المصرية الزائرة لفلسطين، وشارك فيها: يوسف وهبي وجورج أبيض وعزيز عيد ونجيب الريحاني وعلي الكسار. وأدت القوى السياسية الناهضة من خلال الجمعيات والأندية والمدارس الوطنية دوراً مهماً في تشجيع فن المسرح وتوظيفه لمقاومة الاحتلال والتقدم الاجتماعي. في هذه الفترة، اعتمد المسرح على الموهبة الفطرية والارتجال، والتأثر والنقل في الكتابة والتمثيل، عن النموذجين الأوروبي والمصري، كما ظهرت أسماء بارزة بقوة أمثال جميل البحري وخليل بيدس واسكندر أيوب ونصري الجوزي وفرح أنطون ومحيي الدين الصفدي وأسمى طوبي ونجوى قعوار وأنطون الحيحي وغيرهم، في حين كانت مدن مثل القدس وحيفا ويافا والناصرة وبيت لحم، تشهد في كل عام ظهور فرق جديدة ومسرحيات جديدة. غير أن دولة الاحتلال الصهيوني دمرت في سياق نكبة عام 1948 كل تلك الجهود والمحاولات. كما دمرت كل ايقاعات العمل الثقافي بتمزيقها للنسيج الاجتماعي وتشريد 820 ألف فلسطيني خارج وطنهم إلى مخيمات اللجوء والمنافي البعيدة.

المدن المركزية؛ كالقدس وحيفا والناصرة، التي كانت بؤراً ومنارات للعمل الثقافي ومركزاً للحياة المدينية والعصرية مثل بيروت، ومركزاً للنشاطات الاقتصادية والاجتماعية، بات أصغر نشاط فيها مرهونا بأوامر الحاكم العسكري. وباتت غالبية الأندية والجمعيات «مقرات الفرق المسرحية»، تحت تصرّف دائرة الأملاك الإسرائيلية أو مساكن للمهاجرين المحتلين. وبات روّاد المسرح وعشّاقه، لاجئين في خيام بائسة يبحثون عن أشلائهم الممزقة، وما يستر جوعهم وعريهم، فغاب المسرح وغاب العاملون فيه لسنوات طويلة داخل الوطن وخارجه.
الواقع الجديد الذي نشأ في داخل المناطق التي أقامت فيها إسرائيل دولتها، كان كارثياً على من صمدوا فوق أرضهم. كان الهدف الأول لهؤلاء الحفاظ على وجودهم، ولا سيما الجسماني أولاً. والهدف الثاني، الحفاظ على هويتهم وكيانهم، بمقاومة محاولات الطمس والتشويه والأسرلة. في ظل هذا الوضع، تعرّض المسرح الفلسطيني الجنيني لضربة عنيفة، وأصبح الفنانون والمثقفون مطاردين كما حال السياسيين. أما من حاولوا مواصلة النشاط المسرحي مسقطين من اعتبارهم الوظيفة الوطنية والاجتماعية والإبداعية والديموقراطية للمسرح، فقد جوبهت محاولاتهم المسرحية بالرفض، واعتبرها الجمهور شيئاً زائفاً. مثل مسرحيات «فوق الانتقام» و«كرسي الاعتراف» لـفريد مدور، و«ظلام ونور» لميشيل حداد وجمال قعور، و«آمنة» لسليم خوري، التي يدعو فيها إلى التعايش بين الديانات الثلاث بمثالية ورومانسية، متجاهلاً قسوة الواقع، وحقيقة الاحتلال البشعة.

حالة الخوف من بطش الاحتلال وتقديم مسرحيات بمضامين وأفكار هزيلة وشكل فني خطابي وأداء مزيف، سرعان ما قابلتها تجارب تقتحم الواقع وتتصادم مع الاحتلال في تحدٍ للخوف، وفي براعة فنية تكشف وضع الفلسطيني الواقع تحت ضغوط رهيبة، وكيف يجابه ورطته مع هويته ومع عدوّه. من تلك التجارب مسرحية «قدر الدنيا»، التي تتناول قصة فلسطيني يتسلل من لبنان، عائداً إلى قريته ليحصل على هوية وحق الإقامة في وطنه، مقابل موافقة العائلة على قبول أن يعمل أحد أبنائها مع الاحتلال كمخبر. وفي وقت لاحق، لخّص الكاتب إميل حبيبي من خلال روايته «سعيد أبو النحس المتشائل»، التي تحوّلت في ما بعد إلى عمل مسرحي شهير، فكرة محاولة التكيّف والنجاة، وكيف يُنكر ذلك الفلسطيني البائس «سعيد» ذاته بأسلوب ساخر مرير، ليؤكد هويته التي ينفيها بكلامه وأفعاله. ثم يكتب توفيق فياض مسرحية «بيت الجنون»، ويكتب الشاعر سميح القاسم مسرحية «قرقاش» لفضح ذلك الظلم والتعسّف بحقّ من يعيشون لاجئين في وطنهم. الدولة العبرية التي قمعت أي مظهر له علاقة بالهوية الثقافية الوطنية للأقلية العربية التي بقيت على أرضها، هي التي تسببت بانقطاع الجهود المسرحية السابقة على وجودها لسنوات كثيرة، كما تسببت بانقطاع التجربة في المنفى بعد أن تشتت شمل الفنانين وبات العمل في المسرح ترفاً وفائضاً عن الحاجة. في مقابل هذه الصورة، كانت التجارب المسرحية التي قُدّمت في الضفة الغربية تتركز على أعمال تربوية ذات طابع مدرسي، وتفتقر إلى مقوّمات العمل المسرحي المتكامل والناضج.

معازل وفضاءات
في مخيمات اللجوء في سوريا، الأردن ولبنان، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، انحصر المسرح في أندية الشباب التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين «أونروا». وكان الموضوع الأثير في التجارب المسرحية التي قُدّمت يدور حول الحنين للوطن الضائع، والدعوة للتضحية والشهادة في سبيل الوطن. تلك المسرحيات والتمثيليات ذات النزعة الميلودرامية والخطابية، كانت ترافقها مسرحيات اجتماعية مشبعة بالقيم الأخلاقية والموعظة، إضافة إلى عروض كوميدية تهريجية لا هدف لها سوى التسلية.
التجارب المسرحية البسيطة وفقيرة الإمكانات التي قُدّمت لعشرين عاماً تقريباً، ظلت حبيسة المخيم ولسكانه، وظلّت وسيلة التسلية الوحيدة التي يعبّر فيها الجميع عن مشاعرهم تجاه أنفسهم ومأساتهم. ومن خلال عشرات العروض التي شاهدتها في مخيمات مختلفة، ظلّت الصورتان التقليديتان تتناوبان على خشبة المسرح؛ الصورة الأولى، التي تقدّم الفلسطيني كضحية مظلومة خسرت كل شيء (خسرت الوطن الفردوس) بسبب فاشية الصهاينة المحتلّين، وبسبب خذلان وخيانات بعض الأنظمة العربية. والصورة الثانية، التي تقدّم الفلسطيني كمقاتل وفدائي يُضحّي بحياته ويطلب الشهادة إلى أن ينالها، فيصبح أُمثولة وأسطورة في تضحيته. وذات الشيء جرى مع الغناء، والفن التشكيلي، والكثير من الأعمال الأدبية، والتي تمجّد الأرض التي لا يكف الحنين لترابها، وتصوّر الوطن كالفردوس لا مثيل لها، وتجعل من الشهداء أو الفدائيين قديسين وأسطوريين. فاللاجئون الفلسطينيون الذين يتعرّضون لضغوط متناقضة تدفعهم أحياناً إلى نسيان هويتهم وإنكارها، سرعان ما تعيدهم الذاكرة والحنين من بؤس الواقع والنبذ أو محاولات الدمج القسري، إلى التمسّك بهويتهم والمجاهرة بها. وفي لحظات أخرى، ومناخات فيها قدر من الديموقراطية والتسامح، كان كثير من الفلسطينيين يحاولون الاندماج في الهويات الأخرى، إلى أن يكتشفوا أن هذا غير ممكن، فيعودون للذات وللهوية، وعلى الأخص في مراحل النهوض الوطني وتصلّب الحركة الوطنية الفلسطينية، وانتعاش الأمل بإمكانية العودة.
ظل الإنتاج المسرحي في المخيمات متواضعاً ومغلقاً على نفسه، كذلك صداه وتأثيره وتفاعلاته. ولم يأخذ أبعاداً جديدة إلا بانفلاته في المحيط العربي الأوسع في المدن المركزية، كبيروت ودمشق والقاهرة، وبغداد. واغتنت تجربة هواة المسرح من اللاجئين الفلسطينيين وتطوّرت بعد أن بدأوا المشاركة في مسرحيات يقودها مخرجون وكتاب محترفون في بيوت مسرحية مجهّزة، وبعد أن عاد بعضهم من المعاهد والجامعات التي تدرس علوم المسرح في مصر وبغداد، وفي دول غربية. المسرح في عقول هؤلاء ووعيهم تحوّل من هواية وتسلية، إلى شغف ووعي ووسيلة تعبير للدفاع عن الإنسان والقضايا العادلة، وفي مقدمتها قضيتهم المنسية.

الهزيمة والثورة بعد 1967
لم تتخذ الهوية الفلسطينية قوّتها وحضورها وتجذرها، كما فعلت بعد العام 1967؛ فانهيار الأوهام والمراهنات على الدور الرسمي العربي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وتحرير فلسطين، خلق وعياً وقناعة متزايدة بأن الفعل الجماهيري هو طريق الخلاص، وأن على الفلسطينيين تحمل المسؤولية عن مصيرهم وصنع مستقبلهم. وهذه القناعة انعكست على النشاطات الثقافية، داخل الأرض المحتلة وخارجها. وتدريجياً، أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية تمثّل بحضورها وجود كيان للشعب الفلسطيني، هي رمزه والجامع لمكوّناته. ولعب النهوض الوطني والثقافي دوراً بارزاً في استنهاض الوحدة الروحية والنفسية للفلسطينيين، في الوطن والشتات. كما ضاعف نجاح المقاومة المسلّحة في إلحاق هزيمة بإسرائيل في معركة الكرامة، من الإيمان بسلوك هذا الطريق، لاسترداد الحقوق والاعتزاز بالهوية التي تمثّلهم. في الأرض المحتلة، زالت الحواجز التي كانت تفصل بين الفلسطينيين بسبب احتلال ما تبقّى من الوطن. وللمرة الأولى، تتحقق فرصة اللقاء بين المسرحيين من الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48، ويتم التعاون وتبادل الخبرات والانتقال بالعروض المسرحية، ولكن تحت طائلة الإجراءات القمعية لقوات الاحتلال.

عشرات المجموعات المسرحية الناشئة وجدت في المسرح وسيلة مقاومة وتعبير عن رفض الاحتلال. والعديد من هذه الفرق لجأ إلى كتابة النصوص المسرحية بشكل جماعي عندما لم يجد نصوصاً مناسبة تجيب عن أسئلة الواقع، سواء النصوص المصرية أو تلك المترجمة عن النصوص العالمية، ونخصّ هنا فرقاً مثل «بلالين»، «دبابيس»، «صندوق العجب» و«الحكواتي» لاحقاً. كما أن عدداً من المخرجين، وبخاصة داخل أراضي ـ 48، لجأ إلى إعداد مسرحيات عالمية تتحدث عن الاحتلال والمقاومة، أو إعداد روايات فلسطينية ومسرحتها كـ«رجال في الشمس» و«أم سعد» لغسان كنفاني. ولعب عددٌ من المخرجين الجدد ومتخرجي الجامعات والأكاديميات من مصر وبغداد وأوروبا والدول الاشتراكية آنذاك، دوراً بارزاً في هذا الحراك المسرحي المتنامي. وهنا، امتزجت خبرات وقدرات المسرحيين من المناطق المختلفة، واكتشف عشّاق المسرح «ستانسلافيسكي»، و«بريخت»، و«آرتو»، و«ميرخولد»، و«بسكاتور»، على أيدي فرانسوا أبو سالم وصبحي الداموني وفؤاد عوض ورياض مصاروة ووليد عبد السلام ويعقوب إسماعيل وأكرم المالكي كمخرجين ودارسين لعلوم المسرح عادوا ليسهموا بقوّة في رسم المشهد المسرحي، وينتقلوا به من الهواية إلى الاحتراف، ومن الارتجال إلى التنظيم، ومن التعثر والانقطاع إلى الاستمرار والانتشار. هذا الواقع الجديد لا ينفي حقيقة استمرار عدد من الفرق بتقديم مسرحيات ذهنية وتهريجية لا هدف لها سوى التسلية والهرب من قمع الاحتلال، كما لا ينفي غلبة الأيديولوجيا والخطابات السياسية على أعمال الفرق المسرحية المدعومة من بعض الأحزاب الفلسطينية. ولكن الثابت المؤكد أن جميع الفرق والمجموعات المسرحية الجديدة التي وظّفت المسرح للتعبير عن قضاياها الاجتماعية والإنسانية والوطنية لتدين الاحتلال وتدعو لمقاومته، تعرض أفرادها للمطاردة والاعتقال، وتعرّضت مسرحياتهم وأماكن تدريبهم وعروضهم للمنع والإغلاق بأمر الحاكم العسكري الإسرائيلي.

الاتجاهان البارزان في هذه المرحلة: اتجاه أول يقوم على حالة إبداعية مهنية تحمل وتنقل في أعمالها قضايا ومضامين اجتماعية تولي البعد الجمالي اهتماماً كبيراً. واتجاه ثان، يقدم عروضه المشبعة بالقضايا الوطنية والسياسية، مع ضعف العناصر الجمالية ومهارات الأداء عند الممثلين. وكما الشعر الخارج من الأرض إلى أنحاء العالم معبّراً عن هوية الفلسطينيين وقضاياهم بلغة إبداعية حديثة، بدأ المسرح يحقق حضوره الفكري والاجتماعي والجمالي معبّراً عن هوية الفلسطينيين التي كاد أن ينساها العالم. وكانت تتجذر لدى الجمهور الفلسطيني، الذي يتابع هذه الأعمال في الأندية والجامعات وقاعات العروض المختلفة، القناعة بالهوية، وتُستنهض في داخله الوحدة الروحية والنفسية.

في الشتات، قامت منظمة التحرير الفلسطينية بدعم «جمعية المسرح العربي الفلسطيني» التي قدّمت مسرحيات وطنية رومنسية تؤجج من خلالها المشاعر، وتستقطب أنظار الجماهير العربية المتعاطفة مع الفلسطينيين وثورتهم، مثل مسرحية «شعب لن يموت» لسعيد مزيّن، ومسرحية «الطريق» لنصر الدين شمّا. وطافت هذه المسرحيات في عدد من البلدان العربية، وحققت استقطاباً فوق المتوقّع، ثم تطوّرت أعمال هذه الفرقة التي أصبح اسمها لاحقاً «فرقة المسرح الوطني الفلسطيني»، واستقطبت عدداً من الفنانين الفلسطينيين الدراسين لعلوم المسرح، منهم خليل طافش، حسن عويتي وحسين الأسمر. وشارك في أعمال هذه الفرقة انتصار شمّا، محمد صالحية، بسام لطفي، داود يعقوب، حسين أبو حمد، زيناتي قدسية، عبد الرحمن أبو القاسم وزهير حسن. وقدّمت الفرقة الكثير من الأعمال وشاركت في العديد من المهرجانات المسرحية، ومن أبرز أعمالها: «محاكمة الرجل الذي لم يحارب» لممدوح عدوان، و«الكرسي»، و«العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع» لمعين بسيسو، و«الحلم الفلسطيني» لرشاد أبو شاور، و«لكع بن لكع» لإميل حبيبي، و«المؤسسة الوطنية للجنون» لسميح القاسم. وتبعتها أعمال كثيرة أخرى لكتاب فلسطينيين وغير فلسطينيين كانت تحقق حضوراً مهماً عند عرضها في دمشق، أو في المهرجانات العربية.

هذه المسرحيات التي سعت للابتعاد تدريجيا عن الحماسة الرومانسية وتقديم الفلسطيني بالصورة التقليدية (الضحية، أو السوبرمان)، والاتجاه نحو اللغة المسرحية الجمالية المتقدّمة من دون أن تُسقط المضمون الاجتماعي، بدأت بالتدريج تفقد عناصر أساسية من أعضائها لأسباب سياسية، أو معيشية، كما بدأت تنحصر عروضها في المهرجانات، والنخب الثقافية.
وعموما، فإن التجربة المسرحية الفلسطينية بالمنفى، في ظل منظمة التحرير، أسهمت بقوة في تأكيد الهوية الثقافية الفلسطينية، ولكنها كانت أقل تأثيراً في الحياة اليومية للفلسطينيين العاديين.

محطة أخيرة
توقيع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق «أوسلو»، أدخلها في مغامرة سياسية، وصعّد صراع اليأس والأمل إلى أعلى ذراه، وانقسم المثقّفون بين مؤيد يحلم بالخلاص، ورافض يحذر من نتائج كارثية تُقوّض ما بناه الفلسطينيون وما قدّموه من تضحيات. وطوال العشرين سنة الماضية، أثرت التقلّبات السياسية وعدم الاستقرار على جميع مجالات الحياة، وعكست نفسها في تذبذب النشاط المسرحي واختلاف الموضوعات التي يقدّمها منتجو المسرح.
الآمال الكبيرة بالحرية والاستقلال والإزدهار والسلام النهائي، عاكستها الوقائع على الأرض، فتحوّلت إلى خيبة ودعوة لعودة المقاومة والسخط على السياسيين والسخرية منهم. في البداية، كثُرت المسرحيات التي تتحدث عن السلام والتعايش، وسرعان ما تحوّلت إلى مسرحيات تفضح الاحتلال وإجراءاته البشعة وزيف موقفه من السلام، مثل مسرحيات: «جبابرة الأرض»، و«الجدارية»، و«زمن الأبرياء»، و«قصص تحت الاحتلال»، و«حفار القبور». أما المسرحيات الاجتماعية والساخرة، فقد تناولت المظاهر السلبية في السلطة، وسلوك المسؤولين وفساد بعضهم، والمظاهر الاجتماعية المتخلّفة التي تعيق التقدّم والتغيير.

* مقالة للمخرج الفلسطيني المقيم في رام الله فتحي عبد الرحمن.

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى