لم خلق الله الشر؟

بسم الله الرحمن الرحيم

تعد ”مسألة الشر” من أكثر المسائل دورانا على ألسنة الفلاسفة، ومن أعظمها جلبا لحيرتهم واضطرابهم. كما أنها أحد أهم ما يعتمد عليه الفكر الإلحادي، سواء في شقه العميق المستند إلى شيء من التنظير الفلسفي، أو في جانبه السطحي المتداول عند بعض العامة الذين داخلتهم هواجس الإلحاد.

وملخص المسألة [1] مبني على ملاحظة وجود الشرور في الكون، مما لا سبيل إلى إنكاره. وهذه الملحوظة تستدعي أحد اعتقادات ثلاثة:

فأصحاب الاعتقاد الأول أثبتوا وجود الله تعالى، لكنهم أثبتوا عليه النقص، فكان خللهم في باب الصفات.

وأصحاب الاعتقاد الثالث، نفوا وجود الله سبحانه، فكان الخلل عندهم في باب إثبات الذات.

وتوسطت الطائفة الثانية، وهي التي تضم جماهير المتدينين، فأثبتت الذات، ونسبت للخالق سبحانه ما يليق به من صفات الكمال ونعوت الجلال، وفسرت التناقض الظاهر بما يدفع تناقضه، ويقرر انسجامه مع صريح العقل وصحيح النقل.

والغرض من هذا المقال: اختصار كلام المخالفين للحق في هذه المسألة، وردّه بما يتيسر، ثم تقرير الحق الحقيق بالقبول، الموافق للمعتقد السليم، دون تفصيل كثير.

مسألة الشر قديما وحديثا

يظن بعض الناس أن أول من بحث المسألة من الفلاسفة هو ديفيد هيوم. والحق أن القضية قديمة، بل هي ”مشكلة المشاكل في جميع العصور”، كما يقول العقاد [2]. ويقول في موضع آخر: ”أما شبهة الشر فهي من أقدم الشبهات التي واجهت عقل الإنسان منذ عرف التفرقة بين الخير والشر وعرف أنهما صفتان لا يتصف بهما كائن واحد” [3].

وقد ذكرت عند فلاسفة الإغريق، واشتهر عندهم ما يسمى ”معضلة أبيقور”، وهي معتمدة على سؤال [4]: (إذا كان الإله [5] هو العادل و المثال الأعلى للخير , فلماذا توجد الشرور؟).

والجواب الذي يقترحه، متأرجح بين أربع احتمالات:

ومن البدهي، أن هذه الاحتمالات الموضوعة على شكل عناوين مختصرة، تختزل تعقيد المشكلة وتسطّح نتوءاتها الراجعة إلى عدم تحرير التعريفات والاصطلاحات، وعدم انضباط مقدمات البراهين. والإشكالات العميقة، لا يمكن الجواب عنها دون تفصيل وبيان.

والحق أن العقل السالمَ من شهوة الإلحاد [6]، لا يرى في هذه المعضلة ما يناقض معاني وجود الله تعالى، أو أصل ربوبيته وكمال صفاته، ولكن الفكر الإلحادي يرضى بمثل هذه الأسئلة، ويستطيل بها على المتدينين الموحدين. وفي القرن الثامن عشر يقول ديفيد هيوم: (إن أسئلة أبيقور القديمة لا تزال تفتقر إلى إجابة!) [7].

ولعل جزءا كبيرا من المشكلة يكمن في أن بعض الناس يطبق قواعد الطبيعة المحسوسة على عالم ما وراء الطبيعة، ويقيس الغائب على الشاهد – كما يقول علماؤنا المتقدمون! وكثير من الملاحدة الماديين لا يستطيعون التخلص من قواعد الحس، حتى في أبحاثهم الميتافيزيقية، على الرغم من أنهم أكثر الناس نقدا للتصورات المشهورة في الديانات السماوية للإله واليوم الآخر، من جهة التصاقها بالمفاهيم المحسوسة – فيما يزعمون!

وإذا كان نقاش مسألة الشر قديما – كما أسلفنا – فإنه تغذى في القرون الأخيرة بتصورات فلسفية وظروف عامة، جعلت المسألة تظهر لكثير من الناس في حدّة أشد مما كان الأمر عليه في القديم.

أما التصورات الفلسفية فالمراد بها خصوصا: ”الإنسانية” التي جعلت الإنسان في وضع المركز، ورفعت من شأن حقوقه الفردية، في مقابل واجبات العبادة للخالق. وقد أدّت هذه المفاهيم الجديدة إلى اطلاع عامة الناس على حقوقهم الشخصية، وانبثاق حساسيتهم المفرطة تجاه الشرور المحيطة بهم، مما جعلهم يكثرون الشكوى منها وتقوى حدة شعورهم بالشرور مقارنة بشعور السابقين بها. وقد كان الناس قبل ذلك، يتقبلون أصنافا من الظلم من ذوي السلطان، كما يتقبلون أنواع الشرور الموجودة في العالم!

فالمسألة بهذا الاعتبار نفسية [8].

وأما الظروف العامة فالمقصود بها تضاعف حجم الشرور خلال القرون الأخيرة، بسبب انعدام الوازع الديني وانهيار الأساس القيمي للحضارة الحديثة في ظل انتشار الفلسفات الممجدة للقوة والمسوغة لتسلط القوي على الضعيف. وهكذا ظهرت أنواع جديدة من الجرائم، وبرزت أصناف لا أخلاقية من أسلحة الدمار وتقنيات الحرب، واستشرت أمراض جديدة بسبب توجهات الحضارة المادية، إلى غير ذلك.

ولا شك أن هذا كله، له دور كبير في إحياء مسألة الشر القديمة، وبعث الدماء في جانب الاستدلال الإلحادي بها.

مختصر الأجوبة الفلسفية حول مسألة الشر

تنوعت إجابات الفلاسفة والمفكرين حول مسألة خلق الشر [9]، وكان من هذه الإجابات ما هو حقيق بالتأمل والقبول، ومنها ما يحمل في طياته مغالطات قبيحة.

فمن الأجوبة قول بعضهم: إن الشر وهم لا حقيقة، وأنه يزول ويعقبه الخير. وهذا التفاف على الإشكال بتبديل الاصطلاح لا غير. إذ للمعترض أن يقول: إن هذا الشر الذي تسميه موهوما، لا نزاع بين العقلاء في أنه سبب لآلام محسوسة، ولا نزاع في أن عدمه أفضلُ في شعور الإنسان من وجوده.

ومن الأجوبة قولهم: الشر عدمي لا وجودي، فالشر هو انعدام الخير المقابل له. وهذا الجواب قد يكون صحيحا في ذاته، لكنه لا يحل الإشكال، إذ هو – على التحقيق – صناعة لفظية لا أثر لها في الواقع، إذ لا فرق في أصل المعضلة بين أن يقال: لم الشر موجود؟ وبين أن يقال: لم الخير معدوم؟

ومن الأجوبة قولهم: الشر في حقيقته ناتج عن وضع الخير في غير موضعه المناسبِ له. ويقال في هذا الجواب ما قيل في سابقه.

ومنها أيضا: أن وجود الخير وحده منفردا عن الشر يؤدي إلى نقض حرية الإرادة عند الإنسان. مع أن هذه الحرية نعمة عظيمة لا يمكن التنازل عنها. وقد يجاب بأن هذه مصادرة على المطلوب. فكون الحرية نعمة أعظم من نعمة الخير المحض المجرد عن الاختيار مما يحتاج إلى برهان، إلا في ظل تصور ديني متكامل كما سيأتي.

ومنها: أن الشر نافع لبني آدم، مصلح لمعيشتهم، لا تستقيم حياتهم إلا بوجوده في معاقبة مع الخير. وهذا صحيح إذا كمّلناه ووضحناه بالجواب الذي بعده.

ومنها [10]: أن الشر هو تمام الخير، فلا معنى للذة الحاصلة بأصناف الخير المختلفة دون احتمال وجود أصناف الشر المقابلة لها. فأي معنى للكرم والشجاعة والهمة العالية دون وجود الفقر المحوج والخطر المخوف والعمل الشاق؟!

ولا شك أن هذا الحل الأخير أفضل الأجوبة على المعضلة، وأقدرها على إقناع المتشككين. ولكن قد يسأل سائل:

لم يكون الخير متوقفا على الشر؟ وما دام الله سبحانه قديرا على كل شيء، مع كونه رحيما بعباده، فلِمَ لم يخلق الكون متمحضا في الخير واللذة، سالما من الشرور والآلام؟ ألا يناقض هذا التلازمُ بين الخير والشر عمومَ القدرة والرحمة الإلهيتين؟

والجواب:

إن قولنا بعموم القدرة الإلهية، إنما نعني به القدرة على الممكن، أما المحال فلا تتعلق القدرة به. فلا يمكن أن يخلق الله – مثلا – مخلوقا هو حي وميت في الوقت نفسه، أو أن يجمع بين النقيضين، أو أن يخلق إلها واجب الوجود مثله، أو نحو ذلك من الممتنعات.

وعلى هذا، فإن قدرة الله لا تتعلق بإبطال الشر مع إبقاء الخير الذي يتوقف وجوده عقلا على وجود ذلك الشر، فإن هذا محالٌ عقلا، فلا معنى لنقض عموم القدرة الإلهية به!

التصور الإسلامي لمسألة الشر

مما ينبغي تقريره أولا أن من أُسس الإشكال: المبالغة في تقدير قيمة اللذة وما تستتبعه من الشعور بالسعادة، وفي ما يقابل ذلك من الألم والشقاء. وهذه النظرة المبالغ فيها تؤدي إلى استشكال كثرة الشرور الموجودة في الكون، وعدم التفطن إلى ما يحيط بذلك من التكامل بين الخير والشر، وما يحصل جراء ذلك من الرضا النفسي.

وبعبارة أخرى، فينبغي أن يكون المعيار قيمة معنوية لا منفعة مادية. والمعيارُ المعنوي ينظر إلى تدبير الله تعالى وحكمته في ما يكون من وراء الشر والألم، لا في الشرور والآلام في ذاتها.

والملحد – في أغلب الأحيان – ينظر إلى الشر المعيّن بقطع النظر عما يحيط به، ويشكل تكاملا عاما في الزمان والمكان. وخذ هذا المثال لتوضيح القضية: حين يمرض الملحد فإنه لا يرى إلا جانب الألم في مرضه، وأما المؤمن فيرى جوانب أخرى لا تقل أهمية عن جانب الألم، وقد يكون منها: تقوية مناعة الجسم في مواجهة أمراض أقوى من المرض الراهن، والشعور بتقدير نعمة الصحة بعد الشفاء وتحقق الالتذاذ بها أكثر، والتمتع بمحبة الإخوان والأصدقاء وتعاطفهم حال الابتلاء، والفائدة المادية الراجعة على الطبيب والصيدلي، إلى غير ذلك من المعاني.

وبعبارة أخرى فإن ”الشر في الكون كالظل في الصورة إذا اقتربت منه خيل إليك أنه عيب ونقص في الصورة .. ولكن إذا ابتعدت ونظرت إلى الصورة ككل نظرة شاملة اكتشفت أنه ضروري ولا غنى عنه.. وأنه يؤدي وظيفة جمالية في البناء العام للصورة”[11].

والتصور الإسلامي يتميز بنظرة متكاملة إلى ما يسميه أهل الفلسفة الخير والشر.

ومن تكامل النظرة وجوب اعتبار اليوم الآخر، وعدم الاقتصار على الحياة الدنيا. يقول الشيخ محمد الغزالي مخاطبا الملاحدة: “آفتكم أنكم لا تعرفون طبيعة هذه الحياة الدنيا، ووظيفة البشر فيها، إنها معبر مؤقت إلى مستقر دائم، ولكي يجوز الإنسان هذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه، لا بد أن يبتلى بما يصقل معدنه، ويهذب طباعه، وهذا الابتلاء فنون شتى ..” [12].

ويعبر عن هذا المعنى مالكولم جرانت بقوله:

“فإن لم تكن للإنسان حياة أخرى، فقد يتعذر الإيمان بإله يعنى بسعادة خلائقه ..” [13].

ومن تكامل النظرة في التصور الإسلامي أيضا، ألا تدرس مسألة الشر باستقلال عن قضايا العقيدة الأخرى، خاصة ما ثبت يقينا بالأدلة العقلية والكونية والشرعية من أصول المعتقد، مثل وجود الله تعالى، وانتفاء صفة الظلم عنه.

وهذا راجع إلى القاعدة المعروفة في جميع أبواب العلم، وهي حمل المتشابه على المحكم، ورد الجزئي إلى الكلي، وإرجاع ما تشابه من الفرعيات إلى أصولها الكلية اليقينية.

وتطبيق ذلك في مسألتنا أن الأصل الراسخ المتقرر بالبرهان العقلي الضروري والدليل الشرعي القطعي أن الله تعالى لا يفعل الظلم، ولا يتصور ذلك في حقه سبحانه. فمهما وجدنا صورة مخصوصة من الشر الواقع على بعض المخلوقات، أحلناها على ذلك الأصل، فجزمنا بأن هذه الصورة لا ظلم فيها، وأن الله تعالى ما خلقها إلا لحكمة، سواء أعلمناها أم غابت عن أذهاننا.

ومع ذلك، فقد بحث علماء الشريعة عن حكم كثيرة مختلفة لوجود ”الشرور”، وسأذكر منها في الآتي نبذا قليلة:

إلى غير ذلك من الحكم التي نص عليها جماعة من علماء الشريعة.

والله الموفق.


[1] : Charles Journet, Dieu et le mal Aspects métaphysiques du problème, p. 61.
[2] : عقائد المفكرين في القرن العشرين، عباس محمود العقاد، ص. 64.
[3] : حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، عباس محمود العقاد، ص. 7.
[4] : خرافة الإلحاد، عمرو شريف، ص. 454.
[5] : المراد بلفظ (الإله) ما يرادف (الرب الخالق المتصرف)، وليس (المعبود). واتبعت في هذا اصطلاح الفلاسفة.
[6] : جانب الشبهة وارد في الإلحاد، ولكن لا يمكن إغفال جانب الشهوة: شهوة التحرر من قيود الدين، والاستعلاء على عبودية الله.
[7] : David Hume, Dialogues sur la religion naturelle, Trad. Philippe Folliot, p. 71.
[8] : عقائد المفكرين في القرن العشرين، عباس محمود العقاد، ص. 65.
[9] : عقائد المفكرين في القرن العشرين، عباس محمود العقاد، ص. 66.
[10] : يسميه العقاد: (حل التكافل بين أجزاء الوجود): حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص. 8.
[11] : حوار مع صديقي الملحد، مصطفى محمود، ص. 26.
[12] : قذائف الحق: 201.
[13] : نقلا عن عقائد المفكرين في القرن العشرين، عباس محمود العقاد: 72.
[14] : من الأدب مع الله ألّا يوصف الله بأنه يريد الشر بعباده وإن كان سبحانه وتعالى هو خالقه وموجده. ومما يدل على هذا الأدب الرفيع قول إبراهيم ﷺ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]. وقول الجن كما في سورة الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10]، .وكان النبي ﷺ يدعو فيقول: (والشر ليس إليك). رواه مسلم.
[15] : حوار مع صديقي الملحد، مصطفى محمود، ص. 25.

 

Exit mobile version