فكرمعتقدات

أقوى من الأيديولوجيا

الأيديولوجيا مصطلح حديث نشأ في البيئة الغربية، لكنه أصبح متداولا في كل مجتمعات العالم المعاصر.. وتُعرف الأيديولوجيا ببساطة على أنها النسق الكلي للمعتقدات والقيم والأفكار الموجِّهة لقرارات الفرد وممارساته وسلوكه.. وبتعبير مبسط يمكنك توقع سلوك فرد ما أو مجموعة بشرية ما، وردود أفعاله تجاه العالم المحيط، من خلال الأيديولوجيا التي ينتمي إليها ذلك الفرد أو تلك المجموعة.. وبالمثل تستطيع أن تحدد الأيديولوجيا المتحكمة في الفرد من خلال تحليل سلوكه وممارساته ومواقفه في الحياة.

ورغم حداثة المصطلح -قبل نحو قرنين من الزمان- غير أنه لا يمكن تصور تاريخ الشعوب والمجتمعات قبل تعريف المصطلح، على أنه كان تاريخا عبثيًا لا تحكمه أنساق كُلية للمعتقدات والقيم والمبادئ والأفكار.. الحقيقة تؤكد أنَّ المجتمعات البشرية الحضارية كلها قامت حول عقيدة ما، أو فكرة ما، أو فلسفة ما.. في هذه العُجالة نتناول تطور الأيديولوجيا أو النسق الاعتقادي والفلسفي والفكري داخل المجتمع المسلم باعتباره مجتمعًا ذو عقيدة دينية واحدة بداخله العديد من المذاهب والفلسفات والأفكار والمدارس المتباينة، التي تكاد أن تصنع مجموعة من الفلسفات الموجهة أو الايديولوجيات المتباينة، رغم انضوائها جميعًا تحت لواء العقيدة الإسلامية.. لقد نشأت طرائق أو أنساق التفكير المتباينة في المنهج الإسلامي مبكرًا في صدر الإسلام وعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حدث ذلك عن طريق التأويل المتعدِّد للنص الثابت الواحد باعتباره نصًا قابلا للتأويل، وصالحًا لتعدُّد الأفهام حياله، وهو ما عُرف لاحقًا في الفقه الإسلامي بالنص قطعي الثبوت ظني الدلالة!! تجلَّى ذلك بوضوح في حادثة الأمر بصلاة العصر في بني قريظة.. الأمر لم يتوقَّف هنا عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في فهم النص، فمنهم من أوَّله على أنه أمرٌ قطعي بالوصول أولا إلى بني قريظة ثم إقامة صلاة العصر.. وفهمه آخرون على أنه أمر يفيد الإسراع، وبالتالي صلُّوا العصر حيثما أدركهم موعده في الطريق إلى بني قريظة.. وإذ أقر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين على اجتهاده، -والإقرار ذاته سُنَّة عن النبي- عقَّب الفقهاء بأنَّ أولئك أهل ظاهر النص، وأنَّ هؤلاء هم أهل التأويل أو المقاصد، نشأ عن ذلك مدرستين كبيرتين أساسيتين في الفقه الإسلامي، مدرسة الظاهرية، ومدرسة المقاصدية!.

الفقه الإسلامي أيضا -والمقصود بالفقه هو تنزيل الأحكام الشرعية على واقع الحياة-انقسم إلى ستة مذاهب رئيسية كبرى على الأقل: الحنفي والمالكي والشافعي الحنبلي والجعفري والظاهري.. والمذهب الفقهي يبلور رؤية اجتهادية في تأويل ما يقبل التأويل من النص المقدس، وهو كل قطعي الثبوت ظني الدلالة.. وقبل ذلك اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في الفقه وفي تفسير القرآن الكريم، اختلافا أخرج لنا ما بين شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، عشرات الاجتهادات المتباينة.. ولم يتوقف اختلاف الرؤى على الاجتهاد الفقهي في مسائل العبادات والأحوال الشخصية، بل ظهر التباين السياسي والاقتصادي مبكرا جدا، فبينما يرى عمر بن الخطاب عزْل خالد بن الوليد إثر خطأ ما في حروب الردة، يرى أبو بكر الصدِّيق ضرورة استمرار خالد في قيادة الجيش ويضم له جيوش أخرى ويكلفه بمواصلة فتح الشام.. لم يكن اختلافًا في موقف أو حادثة واحدة، إنِّما كان اختلافًا في السمات الشخصية بين اللين والرفق من جانب أبي بكر، والشدة والعدل المطلَق في شخصية عمر.. اختلافًا يؤطِّره العقيدة ويحتويه الشرع الحكيم!! وسياسة عمر الاقتصادية القائمة على التقشف الشديد تختلف كل الاختلاف عن نظرية عثمان بن عفان للمال والثروة وطرق الإنفاق، فبينما منعَ عمر العطايا إلى أهله وقرابته، كان عثمان ينفق على ذوي قرباه من ماله الخاص -وكان ذو مال عظيم- وكلاهما يرتجي بفعله رضى الله.. ونظرية أبي ذر الغفاري المالية ورؤيته في المال تختلف كل الاختلاف عن رؤى كافة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين.. ولا شك أنَّ النظرة للمال والحريات العامة والخاصة هي التي تصنع الأيديولوجيات الكبرى، وهي التي تميِّز مثلا بين الاشتراكية والليبرالية.

لذلك يمكننا أن نضع تعريفًا أقل حدية للأيديولوجيا بأنَّها طريقة في الحياة والإدارة والنظرية الاقتصادية، وهي على ذلك تكون أقل تأثيرًا من العقيدة الدينية ومتطلباتها اللازمة، ويحتويها الدين، ويقبل بتعدُّد الأيديولوجيات داخل التطبيق المنهجي للدين على مناشط الحياة.

في الإسلام تظل عقيدة التوحيد أعلى وأقوى من أي أيديولوجيا، فالمسلم أخو المسلم، وإن اختلفت أيديولوجياتهم في السياسة والاقتصاد وعلوم المجتمع، وتباينت رؤاهم لإدارة الحياة.. والعقيدة الإسلامية تتحقق بالإيمان بالشهادتين والتسليم بأركان الإسلام الأربعة الباقية بعد الشهادتين -الصلاة والصوم والزكاة والحج-وأركان الإيمان الستة-الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره-ولا يسع المسلمون أن يختلفوا فيما هو قطعي الثبوت -كل القرآن الكريم، وبعض السُنَّة النبوية-قطعي الدلالة –الذي لا يقبل تأويلا أو اختلافًا.. وهذا القدْر من النص المقدس الحاكم لكل مسلم على وجه الأرض ويتحقَّق به الإسلام والأخوة، قليل، ويعرف بأنه ثوابت الدين.. أمَّا ما هو قطعي الثبوت ظنِّي الدلالة، فمجال الاختلاف والتباين في فهمه يسَع الجميع ولا يُخرج الاختلاف فيه من ملَّة الإسلام.. وحتى إذا ارتكب المسلم كبيرة من كبائر ما نُهي عنه قطعيًا، أو قصر في إقامة ركن من الأركان-دون أن يُنكره- يظل مُسلمًا عاصيًا تُرجى توبته ولا يخرج من الملة، وهو على كل حال مُرجئ لأمر الله لعلَّه يغفر له ويعفو عنه.

يظل المسلم مسلمًا إذن مهما اختلفت أيديولوجيته في الإدارة والسياسة والاقتصاد.. وتظل العقيدة ومن ثَمَّ العبادات ثُم الأخلاق الأساسية من صدق وكرم وأمانة وشهامة ومروءة وغيرها فوق الأيديولوجيا ومستوِعبة لها.. وتطبيقات ذلك في واقعنا المعاصر كثيرة.. فالمسلم يقف يؤدي فريضة الصلاة لا يسأل المسلم الذي يجاوره عن هُويته السياسية ولا نظريته الاقتصادية ولا رؤيته الاجتماعية قبل أن يصطَّف بجواره ويلصق قدمه بقدمه، تربط بينهما أخوَّة الدين والعبادة والأخلاق.. وذوو الأرحام يُحبون بعضهم حُبًا فطريًا يغرسه الله فيهم وإن تباينت أيديولوجياتهم ونظرياتهم في الحياة.

الإسلامي إذن ليست أيديولوجيا مستقلة عن الدين الإسلامي نفسه، ولا هي أيديولوجيا عقدية حاكمة مثلها مثل الليبرالية أو الاشتراكية أو الأناركية أو القومية المتطرفة.. بل أنَّ الإسلام ذاته يقبل أن تختلف النظرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تستمد منهجها من تعاليمه طالما احترمت الثوابت القطعية.. ولذلك فالإسلامية أساسًا ليست مصطلحًا صحيحًا ولا شرعيًا، ولم يقل به أحد من قبل في تراث المسلمين، إلا كتابًا واحدًا: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام أبي الحسن الأشعري، وخلاصة ما وصل إليه قوله: (اختلف الناس بعد نبيهم على أشياء كثيرة ضلَّل بعضهم بعضًا وبرأ بعضهم من بعض فصاروا فِرَقًا متباينين وأحزابًا متشتتين إلا أنَّ الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم).. إذن مصطلح الإسلاميين الذي تفرَّد به أبو الحسن الأشعري، قُصد به فرقًا من المسلمين، ولم يُقصد به لا الدعاة ولا المصلحين ولا المجدِّدين، ولا الذين يطالبون بتحكيم منهج الإسلام في كافة مناحي الحياة! فداخل المنهج الإسلامي ومرجعية الإسلام يمكن للفرد أو الجماعة أن يكون في نظريته للحياة، محافظًا أو مجدِّدًا أو إصلاحيًا أو تقليديًا، أو ظاهريًا، أو مقاصديًا.. يمكنه أن يميل إلى إطلاق الحُريات الخاصة والعامة، في ظل ثوابت وضوابط الدين القطعية، أو يميل إلى التقييد حفاظًا على قيم المجتمع.. وله أن يميل إلى حرية امتلاك الثروة المشروعة طالما يؤدي صاحبها زكاتها المفروضة، أو يميل إلى فرض التكافل المالي الاجتماعي بقوة القانون، عن الأولى تنشأ الليبرالية والرأسمالية، والتأويل الإسلامي لا يرفض منها سوى التغوُّل واللا إنسانية، ويهذِّبها بالزكاة والصدقات ومنع الاحتكار وضمان المنافسة.. وعن الثانية تنشأ الاشتراكية، والإسلام لا يرفض منها إلا منع الحريات، ومصادرة مال الناس بالباطل، ولكنَّه أصَّل أساسًا لنظم التكافل الاجتماعي ونظريات العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة في ظل قوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ)الحشر7.

إنَّ سقوط مصطلح الأيديولوجيا الإسلامية في الدول والمجتمعات المسلمة يُعد مطلبًا أساسيًا للعودة إلى المرجعية الكبرى الكلية للإسلام ذاته كدين، يقبل التباين، الذي يعرِّفه ابن تيمية بقوله: اختلاف تباين وليس اختلاف تضاد.. ويقلل حدية المواجهات المؤدلجة بين تيارات وفصائل المجتمع الواحد، ويُعلي من قيمة الوطن وأولياته والحفاظ على كيانه ووحدته وأمنه ورخائه واستقراره، كقيمة إسلامية أساسية حثَّ عليها الدين في غير موضع، على النظريات السيواقتصادية القائمة على الاجتهاد والتأويل البشري في فهم النص الظني.. ولأنه في الأساس مصطلح دخيل، حاول أن يؤصِّل له بعض منظري تيار الإسلام السياسي على اعتبار أنَّ الإسلامي يتميَّز عن المسلم بدعوته وعمله على تحكيم منهج الإسلام في مختلف مناحي الحياة.. رغم أنَّ الدعاة لتحكيم الإسلام منهجًا وسلوكًا عبر تاريخ المسلمين اتصفوا بصفات شرعية قرآنية مثل: الدعاة والمصلحين والمجدِّدين والمحتسبين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغيرها من الصفات، التي لا تقسِّم المجتمع المسلم الواحد إلى طبقات مختلفة في درجة التدين، ولا تجعل من بعضه صفًا حركيًا إسلاميًا دون بعض، ولا تتأوَّل آيات القرآن الكريم ولا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حوادث سيرته العطرة، تأويلا كأنها إنما أُنزلت لها كجماعة دون غيرها من سائر الأُمَّة المسلمة، ولا تتعامل مع خصوم المشروع أو النظرية البشرية المنبثقة اجتهادًا من مفهوم منظِّريها وتأويلهم لنصوص الإسلام حمَّالة الأوجه والقابلة للتباين، كما تعاملت مواقف السيرة النبوية مع أبي جهل وأبي لهب وأمية بن خلف وأئمة الكفر والشرك والجاهلية.. فخصوم المشروع أو التصور البشري المستمد من الإسلام تأولا، ليسوا أعداء لنفس الدين الذي يتحاكمون إليه ويدينون لله به عقيدة ويتعبدون به إليه.

لذا فمن أوجه الخلل التي تواجه مجتمعاتنا وتعوق إنجاز تقدُّم حقيقي، اتخاذ أيديولوجية إسلامية قائمة على الاجتهاد البشري في التصور والفهم، وجعلها مساوية للعقيدة، ومكافئة للدين الإسلامي ذاته، واعتبار كل تناقض لها أو اختلاف معها أو عنها، عداوة مع الإسلام كدين، وباعتبار طرحها كعقيدة تفرض الهيمنة والاستحواذ، فإنها داعية في حد ذاتها إلى الأحادية الفكرية والتعصب المقيت، في مقابل تعصب مقيت مكافئ، أو أشد تطرفًا، للأيديولوجيات المستوردة من الغرب أو الشرق، واعتبار تلك الأيديولوجيات أيضًا فوق الدين، أو مكافئة للدين، أضف إلى ذلك جنوح الرافضين للتطرف الفكري الأيديولوجي كمشروع إسلامي، إلى سياسة تجفيف المنابع عن طريق استهداف قيم الإسلام الأصيلة ذاتها متهمين إياها بأنها منبع التطرف الأيديولوجي، بدلا من فصل القيم الأصيلة عن الأيديولوجيا المستحدَثة.. وكذلك وضع التيار الإصلاحي أو المحافظ في المجتمع لكل الرؤى الأيديولوجية المناقضة لمشروع الإسلام السياسي في سلة واحدة عند الخصومة، واعتبارهم مكافئين للدعوة للانحلال واللا دينية واللا أخلاق، دون أن يكونوا كذلك كحتمية أو ضرورة.. بل إنَّ غير المسلم نفسه كثيرًا ما يكون أخلاقيًا في سلوكه وقيميًا في مبادئه، وقد يكون محافظًا في سلوكه الخاص والعام، لأنَّ مكارم الأخلاق نفسها ليست حكرًا على الإسلام، حتى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنِّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق)، والإتمام لا يكون إلا لما هو قائم وموجود بالفعل.

ثم تبقى بعد ذلك سُنَّة الله تعالى في التدافع بين الإصلاح والفساد، والعدل والظلم، والتجديد القائم على الأصالة وبين الحداثة المنفلتة المطلقة، وبين من يدعو إلى الأخلاق الحميدة، والذي يدعو للانحلال والتفريط، أو التحلل.. فكل هذا التدافع قائم وموجود ومُشاهد لا يمكن إنكاره.. لكنَّه تدافع مذاهب لا صراع عقائد..

ووفق نظرية أنَّ لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فإنَّ المطلوب من أصحاب الأيديولوجيات الأخرى ألا يغلوا في أيديولوجياتهم غلوًّا يجعلها فوق الدين والعقيدة، ويتركون التعصب لها من باب أولى.. ويُعلون مصالح الوطن العليا أيضا فوق ثوابت الأيديولوجيا القابلة في أصل تكوينها للتطوير والتغيير والمرونة، ليلتقي الجميع على كلمة سواء أقوى من أي أيديولوجيا.. وليتفق الجميع على ثوابت أعلى من الأيديولوجيا هي العقيدة والأخلاق وسلامة الوطن ومصالح الناس وأمنهم وحرياتهم ورخائهم، ثم يختلفون فيما دون ذلك وفق ما يرون من أيديولوجيات مبتاينة كيفما شاءوا.

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى