داء فقدان البعد المنهجي المكتسب

إن طغيان عقلية القطيع المُستغفلة والمُهيأة بكل مهارات الانصياع التام والتصديق الساذج للأقوى دون القدرة على التساؤل والتفكير، لينذر بتصاعد الأزمات الحادة التي يعيشها العقل المسلم مع توالي تراجع الأمة الإسلامية ونكوصها على مستوى العطاء والإبداع الفكري والمعرفي وكذا البحث والإنتاج العلمي والتقني على غرار ما يرنو إليه المشروع الحضاري الإسلامي من أهداف وغايات.

فغالب أفراد المجتمع الإسلامي ليس لديهم منهج واضح في الحياة، لعموم بلوى الفوضى، وانتشار الفقر المعرفي بين أوساطهم، زيادة على التشرذم الفكري القائم، فوقعوا في فشل ذريع من حيث ضبط إيقاعات الحياة في مختلف الأبعاد، ولعل أبرز ما يفسر ذلك هو الغياب المفجع للبعد المنهجي في حياتنا، وواقع المشهد الحاصل في أمتنا الآن لهو أكبر دليل على أن غياب هذا الجانب واستفحال هذا الداء الذي أصبح أكبر عائق مانع أمام الإقلاع الحضاري المنشود رغم ما يحمله المنهج الإسلامي من مقومات الحياة الراشدة.

إذاً، كيف يمكن تحرير العقل المسلم من هذه الأزمات التي يتخبط فيها  بفعل هذا الداء؟ وما السبيل الذي ينبغي أن نتبعه لبناء مناعة قوية وتكوين حصانة صلبة تمنع من فقدان هذا البعد المنهجي من حياتنا؟

ما أقسى الحياة وما أشد تفاهتها إن كانت سوى لقمة عيش ومتع وصراعات حيوانية تنتهي بالإنسان إلى الموت جيفة جسدية نتنة تدفن وتوارى التراب.

إن مسألة المنهج من بين القضايا الجوهرية في حياتنا والتي ترتبط أساسا بالعمل، وهي قضية تعرف نوعا من الحساسية المفرطة، فمجرد الخطأ فيها يترتب عنه التطويل في الطريق أو اعتسافه فما بالكم بفقدانه وغيابه، والذي يؤدي إلى الفشل حينئذ، وإلى وقوف الحركة والمسير نحو تحقيق الشهود الحضاري للأمة.

لقد أصبح عقل المسلم يعيش تشوها عميقا وانحرافا مهولا، مما فتح الباب الواسع للخلاف الديني الذي سلك مسالك سفسطائية تهويمية وتخريفية تطغى عليها المصالح الذاتية ويغلبها الطابع الجاهلي الموروث، وهذا ما أدى إلى تمزيق وحدة الأمة، وتعديد سبلها، وتقطيعها شيعا وطوائف لا تحتكم إلى العلم والنظر والتدبر الشمولي، فلم يبقى للأمة بذلك أساس جامع أمام هذه الأزمات الفكرية الحادة لتحقيق مقاصد مشتركة.

إن العقل الرشيد هو من يجعل صاحبه عصيا عن الانسياق للتيارات الجارفة، وعصيا عن التغيير إلا بالرهان والدليل باعتباره عنوان الإنسان ووسام الإنسانية وشرفها، فبالعقل خاطبنا المنان وبه فضلنا عن سائر المخلوقات، كما حثنا عز وجل على استعماله، بل وطالب المشركين بالبرهان العقلي كدليل على معتقدهم، إنه النعمة الكبرى والفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله لذا لزم الاعتناء بها أشد العناية.

“في ظل ما نعيشه في هذا العالم من تناقضات وتعطيل للمقاييس لم نجد تفسيرا منطقيا لهذه الفوضى إلا باعتبار أنها حدثت بفعل فقدان المنهج الذي ينسق ويوازن بين الأنظمة وبين القيم فلا يتعارض الحق مع الخير، وتلك هي خاصية المنهج الإسلامي التي تفرد بها ولم يشاركه غيره فيها” أمين أمكاح

وبعد رحلات التأمل في أزمة انحطاط الأمة وتخلفها، تبين لنا أن تحرير العقل المسلم من هذه الأزمات الحادة التي يتخبط فيها بفعل الغياب الحاد للبعد المنهجي في حياة الأمة ليس بالأمر الهين، ولكن إدراك مكامن الخلل وموطن الداء لَهُوَ أهم خطوة قبل تقديم العلاج الفعال لهذه الأزمات.

وسنتحدث في البداية عن مواقع الأزمات ومواضع المرض، والتي يمكن أن نجملها في ما يلي:

أما فيما يتعلق بالعلاج فينبغي بالضرورة أن يكون شموليا يسري على جسد الأمة بكامله، وليس موضعيا يعالج ما يتعلق بالعقل مع إغفال سائر مكونات جسم الأمة، فالخلل يتعدى العضو الواحد فينخر ويسري في الجسد كله، لهذا يلزمنا أخذ جرعات فعالة لعلاج هذه الأزمات ومحاولة استنهاض الأمة من كبوتها، وإخراجها من حالة الرضا بالأمر الواقع والكساد الحاصل في مختلف الميادين، ويمكن أن نلخصها في النقط الآتية:

في ظل ما نعيشه في هذا العالم من تناقضات وتعطيل للمقاييس لم نجد تفسيرا منطقيا لهذه الفوضى إلا باعتبار أنها حدثت بفعل فقدان المنهج الذي ينسق ويوازن بين الأنظمة وبين القيم فلا يتعارض الحق مع الخير، وتلك هي خاصية المنهج الإسلامي التي تفرد بها ولم يشاركه غيره فيها، لذلك كان من الضروري أن نعرج في حديثنا إلى السبيل الذي ينبغي أن نسلكه للعمل على بناء مناعة قوية وتكوين حصانة صلبة تمنعنا من فقدان هذا البعد المنهجي في حياتنا، والذي يمكن حصر مكوناته الأساسية في النقط الرئيسية الآتية:

رغم وضوح أفاق ما ذكرنا من حيث المبدأ، إلا أنه يقتضي بعد التشمير تنظيريا، ومنهجيا، وتربويا، إلى العمل إجرائيا بشكل كبير، إذ يلزم تجريد العزم لاستجماع ذلك واستكماله.

وخلاصة القول إن قضية المنهج تستدعي الوضوح والحسم وعدم التردد في تطبيقها واقعيا، وبحضور الضمير والإيمان تستقيم الموازين ويتضح المنهج أكثر مما يسهل المسير في هذا الطريق بخطى ثابتة نحو تحقيق الانسجام والتكامل لمواجهة هذا الداء الذي أصاب أمتنا الإسلامية، والعمل الجاد لاستحضار هذا البعد المنهجي الغائب في حياتنا، مع الحرص الشديد على تحقيق النهوض الحضاري المنشود والمنوط بنا.

Exit mobile version