الفصل
يجب الالتزام بعدم الفصل بين المكونات والدوال اللغوية والحفاظ عليها بصورة عامة، إلاّ أننا نرى الشعراء يعدلون عن هذا النمط، لأنّ القيام والالتزام بالاتصال بين المكونات اللغوية لايحقق لديهم في معظم الأحيان ما تصبو إليه نفوسهم من التعبير عن عمق المواقف والرؤي الفكرية فيحيدون عنه، ويكسرون اللغة المعيارية. لا ريب أنّ الذي يهمّهم في هذا المجال هو التعبير عن المواقف والأحاسيس بصورة لاتناسب و قواعدَ اللغة المألوفة ثمّ تحقيق قدر ما يمكن لهم من خلق الصور الجمالية التي تجذب انتباه المخاطب وتؤثّر فيه، فيبعدهم هذا النمط التعبيري ولو بقدر قليل من اللغة المعتادة والمألوفة، لأنّ اللغة المعتادة في نظرتهم تخلق نمطًا من التوتر والفجوة الفكرية والتعبيرية بين المبدع والمتلقّي.
من نماذج قوله في الفصل:
إن عمَّ كربٌ فما إلاّك يرحمُنا
فجُد علينا بأمرٍ منكَ مفعولِ([1]) لم يبقَ في دَلَجِ المدينة فرقةٌ إلاّ بها أوسٌ تجوسُ وخزرجُ([2]) كلُّ البنودِ هنا في غزّةَ انتصرت وعادَ بالخزي والخسرانِ طغيانُ وإنّها عَبرةٌ في الروح مُلهمةٌ وعِبرةٌ لبني الدنيا وبرهانُ ولَرُبَّ صوتٍ مؤمنٍ بقضيةٍ من كثرة الترديدِ أحيا الجِيلا([3]) المرء فيهم في الوري ثَمِلٌ من خمرِ ما في الكيسِ والكأسِ([4]) |
إنّ المتأمل في هذه المقطوعة يجد أنّ الشاعر راح يفصل بين التراكيب والقواعد اللغوية التي يجب الاتصال بينها، ونراه قد يفصل بين المبتدأ والخبر، المعطوف والمعطوف عليه والمستثني والمستثني منه وغيرها من العناصر اللغوية المتصلة ويدلّ هذا الأمر على شدة اهتمامه البالغ بالموضوع المطروح أثناء الأبيات الشعرية.
نجد الشاعر في الأسطر الشعرية المذكور أعلاها يفصل في البيت الأول بين «ما» النافية والفعل المضارع (يرحمنا) بدل أن يقول (ما يرحمنا) بواسطة إلاّ، فضلاً عن ذلك نلاحظ أنّه ينازح عن اللغة المعيارية في توظيف قاعدة الاستثناء حيث يقول (إلاّك) بدل أن يقول (إلاّ إياك).نشاهد في الشطر الثاني يفصل بين المتعاطفينِ بحرف الواو الجارّة حيث يقول: بها أوس تجوسُ وخزرجُ بدل أن يقول: بها أوس وخزرج تجوس وكما فعل هكذا في الفصل بين المتعاطفينِ (عِبرةٌ وبرهانُ) وبين الفعل الماضي (عادَ) والفاعل (طغيانٌ) وبين المنعوت (عَبرةٌ) والنعت (مُلهمةٌ). نراه في البيت الخامس يفصل بين المبتدأ (مؤمن) والخبر (أحيا الجِيلَ) عبر توظيف شبه الجملة، ونلاحظ في الشطر الأخير من المقطوعة يفصل بين المبتدأ (المرءُ) والخبر (ثَمِلٌ) بواسطة شبه الجملة.
يتبين لنا عبر إمعان النظر في هذه الأسطر الشعرية أنّ الشاعر يفصل بين عناصر اللغة وتراكيبها المتلاحقة للتعبير عن مواقف ومشاعر لا توسع له المجال إلّا عبر الانزياح وكسر اللغة المعيارية، فلا ريب أنّ هذا الفصل ينطوي في طياته على دلالات لا تكاد تنتج دون خلق هذا الأسلوب التعبيري، وهذه الدلالات التعبيرية تمتّ بصلة وطيدة إلى قاعدة المخالفة والعدول اللغوي الذي يخلق آفاقاً تعبيرية جديدة ورحبة أمام الشاعر. إذن، فهذا الأسلوب التعبيري في بداية الأمر مرآة صافية تنمّ عن شخصية الشاعر ومواقفه وما تدور في خاطره من هواجس ومشاعر لم تتبلور إلاّ عبر خرق النظام اللغوي وانتهاك أسسه المعتادة.
أما السؤال الذي يخطر بالبال ويثير علامة الاستفهام لدي المتلقّي فهو لماذا عمد الشاعر إلى خرق النظام اللغوي المألوف وخلق هذا النمط التعبيري الجديد؟ طبعاً الإجابة تحتاج إلى إعمال الفكرة وتدقيق النظر فيما ساق الشاعر مساق توظيف هذا النمط التعبيري. هناك عدة عوامل وحوافز جعلته ينهج هذا المنهج، منها إنّ اللغة المعتادة والمعيارية لا توسّع المجال لخلق الصور الشعرية التي تتسم بالجمال والجدة حيث تؤثر في المتلقّي وتشدّ انتباهه لتثير في كيانه تساؤلات عن القضية الواردة ضمن خارطة النصّ الشعري. أمّا السبب الآخر فيعود إلى التعبير عن الثورة والمقاومة في جهتين مختلفتين: الأدبية والسياسية. أمّا الوجهة الأدبية فحاول الشاعر عبر الانزياح الثورة المحتدمة على النظام اللغوي التقليدي الذي ضيق آفاق الإبداع لدي الشاعر، وأما الوجهة السياسية فحاول الشاعر من خلال تقنية الانزياح التعبير عن الثورة ضد النظام السياسي القائم ورفض الواقع المرير وأراد من خلالها إصلاح الواقع المعيش وهكذا يتناسب التركيب المنجز مع دلالة الإصلاح والتحرّر من ربقة اللغة المألوفة. بناء على ذلك، قام الشاعر بخروج واعٍ عن النمط والمعيار المأنوس ليجسد الانزياح التركيبي الذي يمثّل جانباً من جوانب مجاوزة التعبير كسراً لحجز الإلف والعادة بغية التعبير عن المواقف الشعورية والشعرية التي جرّبها في الحياة عبر عملية الإبداع، فمن ثمّ استطاع أن يمارس على النصّ الشعري رغباته الجمالية ومواقفه الشعورية حيث استخدم وعيه الفائق في إنتاج النصوص المتحولة والدلالات المختلفة.
إنّ الممعن في هذه الأسطر الشعرية يجد أنّ الشاعر عمد إلى توظيف نمط من الأسلوب التعبيري الجديد جرّاء ما يمتلك الشاعر من موهبة وقدرة فائقة في تطويع المكونات الدلالية لتخدم فكرته واستطاع عبر هذا التطوير امتلاك ناصية الشعر. هذه الانزياحات التي تمّ توظيفها خلال هذه الأسطر الشعرية تمثّل ضربًا من خروج الشاعر على نظام اللغة الشعرية عبر تطوير المعني إلى المعني الآخر الجديد.
فالقارئ عندما يواجه هذا النمط من التعبير يدرك بأنّ هذه الصورة الجديدة تفصح عن مصدر غنّي بالدلالات الجديدة التي حوّلت الأسلوب التعبيري المألوف والعادّي إلى بؤرة فكرية وشعورية حديثة لا تُفهم إلاّ ضمن الإطار اللغوي الجديد الذي يحاول إثراء النص الأدبي من الجوانب الدلالية والفنية وإضفاء نمط من أنماط الجمال والبهاء عليه.
خاتمة
توصّل البحث أخيرًا إلى نتائج هامّة ومنها ما يلي:
1- لقد أوغل الشاعر الحديث في تفتيت الترابط وكسر الانسجام بين العوامل والمكونات اللغوية والنحوية استجابةً للتكوين النفسي والشعوري المتأزّم والمتشظّي.
2- لم تكن ظاهرة الانزياح بكل مستوياتها من الظواهر الأسلوبية الجديدة التي ظهرت إثر الاختلاط وانصهار الشعوب المختلفة من الإسلامية والأجنبية، بل كانت ظاهرة قديمة في التراث النقدي والبلاغي والتي تعرف تحت المسميات المختلفة كالعدول والتجاوز والانحراف والمخالفة و…
3- تعدّ تقنية الانزياح من آليات الهروب من سلطة اللغة المعيارية وتمظهراتها للعثور على الآفاق الإبداعية الحرّة التي تحقق للنصّ امتلاك السلطة وتمهّد السبيل لنقل الشعر من المجالات التعبيرية الضيقة إلى ساحات رحبة متسعة.
4- لا ريب أنّ الشاعر “سمير العمري” اتخذ هذه التقنية التعبيرية أداة طيعة للربط بين الجانب النفسي ونصه المبدع وإضفاء ضرب من ضروب الجدة والجمال على النصّ الشعري، فلم نجد أي هوة فكرية بين الانزياح والحال الشعورية التي تنتاب الشاعر.
5- تدفع التمظهرات المختلفة للانزياح التركيبي في الشعر المتلقّي نحو تجاوز البنية السطحية والغور إلى البنية العميقة للحصول على الدلالة الجديدة.
6- لقد لعب الانزياح التركيبي دورًا بارزًا في توجيه الحركة الدلالية للنص الشعري وربطها بالبني التركيبية وإثراء النصّ من النواحي الدلالية وإثارة بواعث التفكير لدي المتلقّي لفكّ شفرات النص.
قائمة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
بودخة،مسعود، الأسلوبية وخصائص اللغة الشعرية، الأردن، عالم الكتب الحديث،2011م.
بنيس ،محمد ، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاته، دمشق، دار توبقال للنشر والتوزيع والدار البيضاء، 1985م.
جيرو، بير، الأسلوبية، ط1، تحقيق محمد رضوان الداية، وفايز الداية،دمشق، دار الفكر، دمشق، 2007م.
الجرجاني، عبدالقاهر ، دلائل الإعجاز، ط1،تحقيق محمد رضوان الداية،دمشق،دار الفكر، 2007م.
حسين قاسم، عدنان، التصوير الشعري التجربة الشعورية وأدوات رسم الصورة الشعرية، طرابلس،المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان، 1980م.
درويش، أحمد، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث،القاهرة،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع،د.ت.
السكاكي، أبويعقوب يوسف ، مفتاح العلوم، ط1، تحقيق عبدالمجيد هنداوي، بيروت، دار الكتب العلمية، 2000م.
السيد، شفيع ، النظم وبناء الأسلوب في البلاغة العربية، ط1، القاهرة،دار غريب،2006م.
شاهين، عبدالفتاح،الرياض، التراكيب النحوية من الوجهة البلاغية عن عبدالقاهر الجرجاني، دار المريخ للنشر، د.ت.
عبدالمطلب،محمد، البلاغة والأسلوبية، ط1، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، 1999م.
——- جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم،ط1، القاهرة،الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان،القاهرة، 1995م.
العمري،سمير، ديوان كفّ وإزميل، ط1،القدس، دار الجندي للنشر والتوزيع، القدس، 2015م.
——- شرفة الوجدان، ط1، القدس،دار الجندي للنشر والتوزيع، 2015م.
عياشي، منذر، الأسلوبية وتحليل الخطاب، ط1، حلب،مركز الإنماء الحضاري، 2002م.
عيد،رجاء، فلسفة البلاغة بين التقنية والتطور، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1979م.
كنوان، عبدالكريم ،من جمإلىات إيقاع الشعر العربي،ط1، الرباط،منشورات دار أبي رقراق،2002م.
كوهن ،جان ، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الوإلى ومحمد العمري، تونس،دار توبقال للنشر والتوزيع، 1986م.
المراغي، أحمد مصطفي ، علوم البلاغة،ط2،بيروت، دار القلم، 1984م.
المسدي، عبدالسلام،الأسلوب والأسلوبية،ط5،طرابلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية،2006م.
موسي سامح، ربابعة، الأسلوبية مفاهيمها وتجلياتها،ط1، إربد، دار الكندي، 2003م.
الملائكة، نازك ، قضايا الشعر المعاصر، ط3،مصر، مكتبة النهضة،1967م.
ناظم، حسن، البني الأسلوبية دراسة في أنشودة المطر للسياب،ط1، بيروت، الدار البيضاء والمركز الثقافي العربي، 2002م.
يوسف أبوالعدوس،البلاغة والأسلوبية، مقدمات عامة، ط1، عمان، الأهلية للنشر والتوزيع، ، 1999م.
01- العمري، السابق، 46.
02- نفسه، 53.
03- نفسه،79.
04- نفسه، 131.