حمي وطيس المعركة، واشتدّ أوار العصارات الحامضيّة، فتأوّهت ساحة المعركة؛ لأنّ أسنّة الوجع قد أشبعتها وخزا؛ طالبة الضحايا لإذابتها … ولمّا لم تجد نخرت طلقاتها المكان… فصاحت الأرجاء:
ويلي! ما به صاحبي قد نسي إمدادي بالذّخيرة، والعتاد اللازمين للصّمود في وجه هذه الحرب الضّروس للأحماض التي تعصرني عصرا؛ علّها تجد ما يسدّ رمق حنقها، ويرضي جشع شهوتها، وبتّ لا أقوى على مواجهتها؟
لم تدركِ المعدة كُنْهَ الأمور، وهولَ ما يدور، عندما طال حرمانها، وأخذ التّعب منها الكثير، وبات يؤرّقها ما آلَ إليه حالُها، فرفعت لواء الاحتجاج في وجه هذا الخواء الذي يجرّ عليها جريرة شرسة . ولكنّ احتجاجها لم يجدِ نفعا في تلبية رغبتها؛ بل جلبت الاستهزاء لنفسها حين صاح بها العقل:
ما بال صاحبتنا؟… ألا تستطيعين تحمّل الرّاحة من ثقل العبء ساعات؟ وفي ذلك إراحة لك ولغيرك ممّن تثقلينهم بثقل ما تلتهمين؟!…
أراك شاكية باكية، ولست متحمّلة حرمانَك رغباتِك من طيب مشتَهياتك التي أتخمتك كثرتها، ووددتُ إراحتك بعض الوقت من عنائها!… تثورين وتولولين ليسيرٍ ينقصك، ولم أرَكِ مرّة قد التفتّ لما ينقص غيرك من أقرانك … فلا تأبهين لبلواهم ، ولا تشعرين بشكواهم…
ها أنا أُترَك فترات دون تغذية بما أشتهي وأبغي … قد ينسى صاحبي أو يتناسى حاجتي في التّزوّد بما هو جديد، ويتركني أجترّ ما غذّاني به في الماضي العتيد، فلا أستسيغه؛ لأنّه يلغي كلّ جديد، ويتحكّم بي تحكّم الأسياد بالعبيد…
إنّ طعامي مختلف ويحتاج إضافة توابل بنكهات مختلفة؛ كي أسعِد الآخرين بموائد الفكر وبساتين المعرفة، ويحظَوا بالتّباهي بالمذاقات الجديدة للأطعمة! وليس مثلك إذا ما كثر ما يزوّدك به صاحبك، وكثرت التّوابل، وزادت من حرارة طعامك؛ فإنّ حمّى الشّكوى تكوي غيرك… فيتعب الجسد، ويقعد خاملا، وأنا تغادرني الفطنة، وتغدر بي الحكمة!
رغم هذا، تحرصين أن تزَوَّدي بما تريدين، وتدأبين على نيل ما ترغبين، وأراك بكلّ نعم الكون الالتهاميّة تطمعين، وما يتخمك منه لا تتورّعين…
غضبت المعدة وهي التي تحسب أنّها المموّل والمغذّي الرّئيس للعقل … تتعب في الطّحن والعصر، وتتخمها زوائد الحاجة؛ طمعا في التّنويع، وأحيانا تتألّم؛ طمعا في رضا الآخرين … وها هي توبّخ ولم تجد لها نصيرا، ويبدو أنّ سدّ الرّمق بات عسيرا؛ لأنّها تبغي معاقبة العقل الذي يتبجّح كثيرا، وينكر فضلها، ولا يشكر خيرها وما تقدّمه له سائغا غزيرا…
حبست أنفاسها وفي نيّتها الصّبر على جوعها؛ كي تجوّع العقل؛ ليدرك قيمتها، ويعترف بفضلها، مخفية ما تعانيه من عدوان الغارة الحامضيّة؛ لئلا تزيد من شماتته!
لم تستطع الصّمود طويلا، فخارت قواها، وأصبح دأبها الدّؤوب ملء تجويفها بما تحتاج وتريد؛ ممّا زاد من غرور العقل الذي يدرك مصابها، فأردف يخبرها:
أدري بمعاناتك، وأعرف أنّك لا تستطيعين السّيطرة على غريزة الالتهام التي بها تتميّزين، ودونها لا تعيشين، وإن لم أشفق عليك وأرحمك ستبقين رهينة ما تعانين. أنا الوحيد الذي أنهي عذاباتك، وصرخات الأنين … بشدّ لجام غريزة الالتهام؛ لتكتفي بالقدر القليل الذي يشبعك فلا ترهقين!
هل لا تزالين تتبجّحين بأنّك صاحبة الفضل عليّ وعلى الآخرين؟!
وفيما المعدة محتارة بأمر غريزتها الالتهاميّة التي بات العقل يملك زمام أمرها- حسبما ادّعى- صرخت:
أيّها المتحكّم بالغرائز، لماذا تحاول السّيطرة عليّ؛ محاولا منعي من النّعم التي أحلّت لي، وينتفع بها غيري، وأتحمّل النّقص والزّيادة لأجلهم، تشدّ لجامي، وتترك الحبل على الغارب لغريزة الجسد التي كانت التّابل المحرّم، ولا يكشف سرّه إلّا من أحلّ له وبشروط وقيود؟!
فها هو توابل معروضة في كلّ أسواق المعروضات، سلعة تتنافس الشّركات في كيفيّة العرض والكشف؛ ممتهنة حرمة الجسد، وهاتكة مقامه … وما كان مقدّسا ووجب عليك المحافظة على قدسيّته، دنّس وامتهن وأصبح الطّعم في مصيدة اخترقت كلّ ميادين الحياة سرّا وجهرا!… وجعلت النّفس عبدة للإغراءات المحرّمة، والتي حاربها وعيُك بأوامر كتب ربّانيّة.. اتّبعها العديد ممّن آمنوا بها، ولم تبق إلّا القلّة القليلة التي تؤمن بما كان، ولا تستطيع السّيطرة على ما هو كائن!
لقد اختُرِق (التّابو) وانتُهكت حرمته، وتجاوزت الاختراقات الحدود، والمنكر أصبح معروفا ، فشرّعت الأبواب، وعرض على الملأ ما أخفته خلف مصاريعها، ولم يعد المتفرّجون والمشاركون يميّزون، ويدركون ما هم فيه منغمسون، وعواقب ما به سيقعون!…لأنّهم في مياه الفتنة التي جرفتهم غارقون، وبأظفارهم هم بها متشبّثون!
فأين أنت أيّها الممسِك بحبال الغرائز، الرّاغب بفرض سلطتك عليّ بشحّ الموارد والقناعة بالقليل، بينما موائدك تعجّ بالكثير من التّوابل المحرّمة التي أضحت غذاءك ، وما تزوَّد به لا يخلو منها، تضاف للكلمات، والمشاهد، والمسموعات… وما خلا منها بات لا يسمن، ولا يغني من جوع … أين أنت من كلّ هذا يا مهذِّب ؟ يا من يتوقّع منه المنع والثّورة؟ هل بتّ تخشى الثّورات والتّمرّد على ما يقوّض أركانك وكينونتك؟ أم أنّك اعتدت غير المألوف فصار مألوفا؟ّ أم أنّ العقال اهترأ وخرجت الأمور عن سيطرتك؟ّ
لماذا لا تشدّ الحبل للغريزة التي دنّست المقدّس، وخلطت الأنساب، ولم يعد يعرف الابن الشّرعيّ من غيره في دساتير أمم كثيرة ؟ هل انقلبت الآية فسيطرت عليك وعلى فطنتك غريزة الانفلات الجنسيّ والجشع العاطفي؟ أم أنّك تحاول السيطرة على الأمور مبتدئا بتهذيب غريزة الالتهام التي أصابتها الشّراهة، مثلما أصابت كلّ الغرائز؛ كي تعاود الإمساك بدفّة القارب وتوجيهه الوجهة الصّواب؟!