أدبنثر

بِرُّ العُقوقِ

بِرّ العُقوقِ

أَيُّها المُعَشِّشُ في خَلايا الفِكْرِ والرّوحِ ضارِبًا فيها أَطْنابَ مُسْتَعْمَراتِ الأَشْواقِ إِلَيْكَ، تَجوبُ فيها فَتَجْعَلُها رَوْضَةً غَنّاءَ، تَعْزِفُ طُيورُها أَلْحانَ فَرَحِ لُقْياك، وَتُغادِرُها فَتَنْعَبُ غِرْبانُ التَّحَسُّرِ فَقْدَ مُحَيّاك. رَسَمْتُ مَلامِحَكَ التي غابَتْ طَويلًا، فَتَجَسَّدَتْ أَمامي وَجْهًا جَميلًا أَغوصُ في عَيْنَيْهِ وَقْتَ غاراتِ أَحْزاني، وَأَخْتَبِئُ بَيْنَ أَمْواجِ الزُّرْقَةِ، التي يُطَهِّرُني ماؤُها مِنْ بِراثِنِ الشَّكْوى، وَيَقيني آلامَ زَفَراتِ الحَسْرَة، لكِنَّكَ، تَمَلُّ سِباحَتي سَريعًا، وَيَقْذِفُني مَوْجُ عَيْنَيْكَ إِلى الشّاطِئ؛ لِأَجِدَ عَيْنَيَّ قَدْ غَطَّتْهُما صُفْرَةُ الرِّمال، وَمُنِعَتا مِنْ رُؤْيَةِ الجَمال؛ فَأَجْلِسُ عَلى صَخْرَةِ الكَآبَةِ وَأَنا أَخَشى خَطَر الانْزِلاقِ إِلى الأَعْماقِ، وَأَسْمَعُ هُتافَ نورِ البَصيرَةِ يُناديني؛ لِيَضَعَ بَيْنَ يَدَيَّ مَجاديفَ زَوارِقِ الإنْقاذِ، فَيَزْدادُ حَنَقي، وَأَتَمَنّى لَو أَعَدْتَني إِلى شاطِئِ أَمْواجِ عَيْنَيْكَ لِأَرْتاحَ وَأَسْتَكينَ، لأنّك الزّوْرَق الوحيد الذي أبغي.

عَلَّقْتُ صورَتَكَ جِدارِيَّةً عَلى حائِطِ قَلْبي؛ كَي يُغَذّيها دَفْقُ المَحَبَّةِ؛ وَكَي تَكونَ الطَّبيبَ الذي يُجري لَهُ القَسْطَرَةَ إذا ما تَراكَمَتْ فَوْقَ شَرايينِهِ زُيوتُ الشَّوْقِ إِلَيْكَ؛ وَلِتُحافِظَ على وَتيرَةِ دَقّاتِهِ إِنْ شَوَّشَها ضَغْطُ مَحَبَّتِكَ. انتَظَرْتُكَ في بُهْمِ لَيْلِ الأَفْكارِ نَجْمًا هادِيًا، تُمْسِكُ بِتَلابيبِ الفِكْرِ، وَتُهديهِ الطَّريقَ السَّوِيَّ؛ لِكَثْرَةِ ما يَرِدُ جَحيمَ المَشاعِرِ الذي يَحْرِقُهُ بِشُهُبِ الحَنين، وَيُبْعِدُهُ عَنِ اليَقين، فلا يظْهَرُ ولا يَبينُ.

أَرَّقَتْني الوَحْدَةُ وَغَرَسَتْ غيلانُها أَظْفارَها في أَحْشائي، فاسْتَحْضَرْتُ طَيْفَكَ لِلإقامَةِ والتَّطبيبِ، وَما هِيَ إلّا دَقائِقُ حَتّى يَخْتَفي حُضورُكَ؛ رُبِّما هازِئًا أو خائِفًا مِنْ مُواجَهَةِ غيلانِ الوَحْدَةِ التي تُغْمِدُ خَناجِرَها في دُروعِ السَّعادَةِ، إِنِ اقْتَرَبَتْ مِمَّنْ تَلُفُّهُم بِرايَةِ تَعاسَتِها، وَتَتْرُكُها تَنْهَشُ كِياني وَتَحْتَلُّ أَفْكاري، وَتُوَلّي.

سَهَّدَتْني المُتَمَنَّياتُ قابِضَةً عَلى حُروفِها، وَمُحْكِمَةً الإِمْساكَ بِميمِها وَتائِها؛ لِئَلّا تَدورَ عَلَيْهما الدَّوائِرُ فَتَفْلَتا وتَسْقُطا، وَتُلْغي المَنِيّاتُ بَهاءَ وُجودِك الوَهْمِيّ. اخْتَطْتُ مِنَ اللَّهْفَةِ لاحْتِضانِكَ، عَباءَةً حَريرِيَّةً تَلُفُّني وَإِيّاكَ، وَتَمْتَصُّ وَهَجَ الشَّوْقِ فَيُدَثِرُني نَسيجُها، وَيَبْسُطُ نُعومَةَ خُيوطِهِ، لكِنَّكَ، أَبْقَيْتَ اليَدَيْنِ في رَجْفَةٍ، تَحْتَضِنانِ شَوْكَ عَباءَةِ النَّكْسَةِ التي زَمَّلَني بِها صَدُّكَ. عَزَفْتُكَ لَحْنًا تَرْقُصُ عَلَيْهِ مَشاعِري، فَرَقَصْتَ عَلَيْها، وَعَزَفْتَ أَلْحانَ الاغْتِرابِ والجَفاءِ، وَحَوَّلْتَ الطَّرَبَ إِلى حُزْنٍ وَعَناءٍ.

هاتَفْتُكَ عِنْدَما هاجَتِ الحَواسُّ وَماجَتْ، وَعِشْتُ فَوْضى شُعورِيَّةً عارِمَةً أَتْعَبَتْني؛ فَسَمِعْتُ حَشْرَجَةً زادَتْ مِنْ حالَةِ الهياجِ، وَأَقْعَدَني القَلَقُ عَلى كُرْسِي الدُّعاءِ لَكَ بِأَنْ تُرَدَّ لِصَوْتِكَ المَوْجاتُ التي تُريحُكَ، وَتُداوي قَلَقي، وَأَقْبَعُ مُنْتَظِرَةً سَماعَ صَوْتٍ تُشَنَّفُ بِهِ الأُذنان، وَتُخْمَدُ نيرانُ الأَشْجان. تَوَهَّمْتُكَ في صَيْفِ الأَفْراحِ عَريسًا تَدعوني لِرَقْصَةٍ “زورْبِيّة” تُنْسيني تَقَرْفُصَ وَجُمودَ الشِّتاءِ وَصَقيعَهُ، وَتُرْسِلُ أَفْراحي مُحَلِّقَةً في سَماءِ البَهْجَةِ، لكِنَّكَ، أَبْقَيْتَ عَواطِفي مَقْرورَةً، وَطُموحاتي مَحْمومَةً بِحُمّى القُعودِ في زِوايا اللافَرَحِ.

ناجَيْتُكَ في أصباح الأَعيادِ مُفَرْقِعًا الفَرَحَ، وَعازِفًا أَلحانَ الطَّرَبِ، وَمُضيئًا لِفانوسِ السَّعادَةِ، وَناثِرًا الحَلْوى عَلى مُرّي، وَمُبدِّلًا نَعيبَ البومِ الذي حَطَّ على شَجَرَةِ فِكْري، بِعَنْدَلَةِ العَنادِلِ الجَميلَةِ، مَرَّ طَيْفُكَ وَلَمْ أَسْتَطِعِ الإمْساكَ بِهِ.
أَي بُنَيّ، تَخَيَّلْتُ.. هَمَسْتُ.. قُلْتُ.. نادَيْتُ.. صَرَخْتُ.. هاتَفْتُ.. هَذَيْتُ.. ناجَيْتُ طَيْفَكَ وَاسْمَكَ يَوْمَ تَحَلَّقَ الأَبْناءُ حَوْلَ أُمَّهاتِهِم مُحْتَفِلينَ جَذِلينَ، فَلَمْ تَسْمَعْ، وَلَمْ تَلْتَفِتْ، وَلَمْ …
وَارْتَدَّ الصَّدى يُلاطِمُ جَنَباتِ روحي وَإِحْساسي، وَاحْتَضَنْتُ خَيْبَةَ أَمَلِ مَجيئِكِ بِذراعَيّ القَهْرِ، وَأَطْبَقْتُ شِفاهَ قُبُلاتِ الوَهْمِ عَلى الجَفافِ؛ شاكِيَةً مُحالَ التَّرطيب وَبُعْدَ التَّرْحيب.

وَبَقيتُ واجِمَةً وَقَدْ أَخْرَسَني عُقوقُكَ الذي أُسامِحُكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ القَدَرَ أَقْعَدَكَ عَنْ بِرّي حينَ عَقَني بِتَغييبِكَ عَنّي لِحِكْمَةٍ شاءَها، حِكْمَةٍ بَذَرَتْ في داخِلي بِذْرَةَ يَقينٍ أَخْبَرَتْني وُرَيْقاتُها التي أَيْنَعَتْ بَعْدَ حينٍ، وَنَجَحَتْ في الوُقوفِ بِوَجْهِ الرّيحِ، أَنَّ تَقَبُّلَ عُقوقِكَ هُوَ بِرُّ بِرَبِّ العالَمين، وَهُوَ البِرُّ العَظيمُ، وَأَنَّ عَقْلانِيَّةَ اليَقين تُحَتِّمُ أَنْ تُهْزَمَ شَهْوَةُ الحَنين.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى