أدبنثر

المقامة الجامعية

حكى نبهان بن يقظان قال: نزلت ضيفا على الجامعة، ابتغاء حِكم مانعة. مُعرضا عن قولِ هامز، تاركا بهْتَ غامز. لِعلمي أن أهل الحسد، وأقران ذات المسد، قد ملؤوا الأرض طولا وعرضا، وضيّعوا نفلا وفرضا. ولما ولجت ديار “بني جامع”، وأنا راغب طامع، عنّ لي أن أتوجّه تلقاء كليّة الآداب، لدواعٍ وأسباب. فلعليّ أجد أدبا أصيلا، أو قولا ثقيلا. أو أفوز بكلام بليغ فصيح، أو قول صحيح مليح. ولما هالَتني كثرة الشُّعب، وقد حوتْ من هبّ ودَب، حثثتُ الخطى، لا كما تفعل القَطا. وإذا بي قُبالة أستاذ يحاضر، أو لعله كان يُناظر. يقول المحاضر ويُعيد، ثم ينقض ما قال ويزيد. ولقد أفدت مما قال، وإن كان قوله قد طال، أن امرأ القيس يُكنّى أبا وهب، فضممت إليّ جناحيّ من الرَّهب. وأنه هو نفسه الملك الضّليل، فزهّدَني في علم لا يروي الغليل. ولما زاد ذَا القروح، نكأ الجروح، فقلت أروح، قبل أن تفيض الرّوح. ثم ألفيتُني في قسمِ أدب، فيه شغب. وكأن المتأدّب سمع من قَبله، فهمّ إلى بيان الأمر ليُتمّه. قال إن للأصمعي في نَسَبه رواية، ولابنِ حبيب رواية. وأن هاجسَه لافظ بن لاحظ، لا يَعدله المبرد ولا الجاحظ. وذكر خبرَه مع بني أسد، وبَرّه في يمينِه وما وعد. ونزوله عند السّموأل، وسبب قوله في الطويل المطوّل:
أجارتَنا إنّ المزارَ قريبُ ؞؞؞ وإني مُقيمٌ ما أقامَ عَسيبُ
أجارتَنا إنا غريبانِ هَا هُنا ؞؞؞ وكلُّ غريبٍ للغريبِ نَسيبُ

وأنه اختُلف في آكل المُرار، فأحسست لهبَ نار، فقلت له: لا ضَررَ ولا ضِرار! فإذا به يسوق ما قال ابنُ دريد في “الاشتقاق”، فذكرت شُرطة الاستنطاق. وإردافَهم سؤالا على سؤال، ولمن أكتبُ وكم من المال؟ ثم راح يقرنه بزهير والنابغة، وأعشى قيس بحجّة دامغة. فسئمت حججه وشواهده، وغرائبه وفرائده. وقلت ما لي والبكاء على الديار، والنّوح على الأهل والأحجار؟ أمَا في هذا المقام غير من هو ومن أبوه؟ وكيف أخذوه وصلبوه؟ وأنه عاش ومات، وترك مصنّفات؟ وما ضرَّ لو أنه قُلّ بن قُل، لم يكن ولم يَقل؟ فولّيت وجهي شطرَ موليير، بعد وداعِ طَرفة وجرير. وتركت فؤادي يتحرّق، أسفا على لبيد والفرزدق. قال أستاذ الأدب الفرنسي، لقد وقر في نفسي، أن أرْسخَ القوم فولتير، فلا يغرنّكم هُذاء فلوبير. فوَلّيتُ مدبِرا ولم أعَقّب، وما عضّني الثِّقاف ولم أُدَردِب. فكأن علمَه لا يريش ولا يبري، ولا يستجلب سمعا ولا يُغري. وبينا أنا أبحث عن ضالّتي، وأطلب حكيما يقضي حاجتي، إذ بأستاذ يتكلم في التّخيير والتّسيير، فقلت لعله يُفيد، ويغْني ويُجيد. ويذّكرنا بالغزالي وابن رشد، فنظفر بحكمة ورُشد. وإذا به يقول: إن الإنسان على العموم مخيّر، لكنه أحيانا مسيّر. فأنا أقوم في الصباح، بإرادة وارتياح. وأتناول الفطور، في غبطة وحبور. فما أن يحلّ العشيّ، ويتفرّق الداني والقصيّ، حتى أجدُني في حانة، بهيّة مزدانة. فإذا ما دارتِ القَرقَف، طار عقلي ورفرف. وإذا بنفسي على سجيّتها، قد بان ما في طويّتها، مع بُجْد قد طرحْنا الجِد. فأقول ما لا أعي، ولا أنكرُ ولا أدّعي. قد رُفع عني القلم، حتى أفيق على لَطْم. فلو أنّ ذاتَ سِوار لطمتْني، ولكنه حارسُ الحانة يَهتبِل الغفلة، ويسدّد اللكْمة على القَفْلة. أفترَوْن بعدُ أني مخيّر غير مُسيّر؟ فأدركتُ أن الرجل لا في العير ولا في النّفير. فانسللتُ بعد أن سمعت ما لا يغْني ولا يُطرب، ويَغيظ ولا يُعجب.

قال نبهان بن يقظان: ثم إني قلت لعل حظ اليوم عاثر، ولا جَرَم أن المِلحاح خاسر. فعاودت الكَرّة، على حين غِرّة. فألفيت شيخا يفتي في النوازل، ويخطّئ المتأخرين والأوائل. يملي من أوراق بين يديه، ولو حضر أبو حنيفة لمدّ رجليه. قال: رِبا البنكِ حلال، كماءٍ زُلال. وحاكمٌ غشوم، خير من فتنة تدوم. وطاعة الإمام، واجبة والسلام. ولا يُشترط العدل والصلاح، ليس هذا عقد نكاح. هذه بيضة الإسلام، افهموا يا أنام! لعن الله من فقسها! فقال أحد الطلاب: من أيقظها يا شيخ! أبْعدَ الله عنك الرَّيْخ! قال: تلك فتنة وهذه بيضة، ثم همَّ يَميز حيْضا من حيْضة. فتركت الشيخ يفتي ويعلّل، ويحرّم ويحلّل. ورُحت أطلب العلم الذي “تتداوله الأمم والأجيال، وتُشدّ إليه الركائب والرحال”. قال معلم الطلاب: أتدرون لمَ ضاعت الأندلس؟ لأننا لم نستعن بالفُرس. ولو أننا أعطيناهم القدس، لكانوا لنا كصَمصام وتُرس. أرأيتم لو أن هِتلر ما انكسر، إذاً لكانت للعرب شؤون أُخَر. لكان منهم الأمير والوزير، والقائد والمشير. أليس يَكره اليهود، ككُره آبائنا والجدود؟ فقلت أهذا هو العلم الذي “في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق”؟ ثم قفز المؤرخ إلى العصر الحجري، ثم إلى العصر الفنيقي والبربري، لينظر ما بينهما من نسب، وصلة وسبب. لكن أطرف ما قال، عن الوقائع والأحوال، أن الإنسان ليس من نسل القرود، بل البشر أسلاف القرد والجدود. وله على ذلك أدلة وشهود، وله في ذلك أقوال وردود. فمضيتُ لا أَلْوي على شيء، وقد اعتراني دُوار وقيء. فما شعرت إلا وأنا بكليّة الحقوق، فقلت لا بأس بعد الصَّبوح من الغَبوق. وبينما أنا أجول، إذ انتهى إليّ صوت يقول: إن الاعتقال على ذمّة التحقيق، يكون لمقصد على وجه التدقيق. لأن الأصل في الذمة البراءة، ويجوز في النصوص اختلاف القراءة. ولذلك قد يطول الاعتقال، لاختلاف الأقوال. فلا يُطلَق سراح المذنب بلا جَريرة، حتى يُعلم الظاهر والسَّريرة. ولا يُعذر أحد بجهله القانون، ليس ذا عزفا على قانون. فقال أحد الحاضرين: لكن جهلَ الناس واقع، ما له من دافع. أفرأيت لو نظرْنا أسباب الجهالة، لتستتبّ العدالة؟ أليس للقانون روح، دونها تَهوي الصُّروح؟ أم تريده نصوصا مقدّسة، على الرفوف مُكدّسة؟ لكن أستاذ القانون نهره، وألزمه بما أمره. فزهدتُ في جمع ليس فيه تعبير، ولا رجاحةُ رأي أو حُسن تدبير.

قال نبهان: ولقد كنت كالمستجيرِ من الرّمضاء بالنار، أو كفأرٍ حاصرَه سِنَّور في غار. وإني كنت كلما سلكت طريقا، أو غادرت فريقا، رأيتُ طلاب العلم في غُدوّ ورواح، وأكثر ما لديهم يُستجمع في صباح. ولبعضهم إجازة، كشهادة خِبازة. لا تُجيز رواية، ولا تفيد دراية. ولآخرين دكتوراه و”ماسْتر”، تفضحُ حامِلها وما سَتَر!
قال نبهان بن يقظان: فلما أطللت على الأطلال، طرحت علمهم كما تُطرح الأسمال. وأيقنت أن نظر القوم كليل، وعلمهم قليل. لا يروي الغليل، ولا يشفي العليل. يتصنّعون المقام والجاه، وإن بضاعتَهم لَمُزجاة. رأسُ مالهم أقوال، وما أقلّ الأعمال. ثم أنشأت أقول:
وجامعةٍ بدَتْ بالأمْسِ مرْقىً ؞؞؞ سمتْ وعلتْ ورُوح العِلمِ تَسْرِي
وحينَ هوَتْ إلى جُبٍّ قَعِيرٍ ؞؞؞ تَسامَى الجهلُ في الأرْجاءِ يَفْرِي
قفارٌ ذاتُ سِيرانٍ عِظامٍ ؞؞؞ رتاجٌ شامخٌ يُغْشِي ويُغْرِي
وعِلمُ القومِ ليسَ يَريشُ سهْماً ؞؞؞ فمنْ ثَقِفٌ يَنالُ قِنىً فيَبْرِي؟
فإنْ تَقصِدْ ديارَ القومِ رَجْواً ؞؞؞ فقلْ مَوْلايَ يسِّرْ عُسْرَ أمْرِي
وكنْ سلِساً ولا تَجزَعْ كَغِرٍّ ؞؞؞ وطِبْ نفْساً ولُذْ دوْماً بصَبْرِ
فمنْ يَدْري لَعلّ اللهَ يُجْرِي ؞؞؞ أمُوراً ما عَلِمْتَ تَجِي بخَيْرِ
فإنّ الخيْرَ حينَ يَجِي بِقَدْرٍ ؞؞؞ دَرَيْتَ ومَا بِأمْسِكَ كُنتَ تَدْرِي
قال نبهان: ثم إني عجبت كيف يُفني هؤلاء الأعمار، ويُحْفون الأدبار، فيما لا يسرّ ولا يضرّ، وإن كان يشغل ويَغرّ. وجُلالُ ما عندهم في الشابكة، يحصل بطُرق سالكة؟

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى