أدبقصة

خارج التغطية

حَرَصَ الحَاجُّ أَبُو عَبدِالله حِرْصًا شَديدًا عَلَى إخْفاءِ حُلَّتِهِ الزَّاهِيةِ عَنْ أَعْيُنِ أَهْلِهِ وأَولادِهِ وكُلِّ مَنْ يَعْرِفُهُ إلاَّ عَنْ بَعْضِ رِفْقَةٍ قِلَّةٍ. لَمْ يَكُنْ غِيابُهُ مِنْ حِينٍ لآِخَرَ وَتَأَخُّرُهُ في العَوْدَةِ إلى دارِهِ أَمْرًا يُوجِبُ القَلَقَ ومَا كان لأِمِّ عَبدِاللهِ أَنْ تَعْتَرِضَ عَلى زَوْجِهَا الذي تَهابُهُ وَتُجِلُّهُ وتَعْلَمُ أنَّهُ ما لَمْ يَكُنْ في المَسْجِدِ أَوْ في صِلَةِ رَحِمٍ فَهُوِ مع أَصحَابِهِ يَتَسامَرونَ ويَذْكُرونَ أيَّامَ الصِّبا والشَّبابِ.
أَمَّا عَبدُالله كبيرُ أَولادِهِ فَقَدْ شَبَّ سَريعًا مُتَجاوِزًا انْتِبَاهَ والِدِهِ لَهُ، وصَارَ هُوَ الآخَرُ قَليلَ اللُّبْثِ في المَنْزِلِ مُمْضِيًا غَالِبَ الوَقْتِ في الاهْتِمامِ بِمَظْهَرِهِ وهِنْدَامِهِ و(مُهَاتَفَةِ) أَصْحَابِهِ ومُواعَدَتِهِمْ. واعْتَادَتْ المِسْكِينَةُ أُمُّ عَبْدِاللهِ عَلى ذَلِكَ مِن ابنِها أَيضًا .. شَابٌّ فِي رَيَعَانِ صِبَاهُ، وسَيَعْقِلُ عِندَما يَكْبَرُ .. إنْ شَاءَ اللهُ، هَذا كُلُّ ما كان بِيَدِهَا فِعْلُهُ بَعْدَ نَصَائِحِهَا المُهْدَرَةِ ورَجائِها المُتَواصِلِ المُشْفِقِ عَلَيْهِ.

في لَيْلةٍ تُشْبِهُ الكَثيرَ مِنْ لَيالٍ غَيرَها أَكَلَ القَلَقُ قَلْبَ أُمِّ عَبدِاللهِ لِتَأَخُّرِهِ الشَّديدِ. عَبَثًا حاوَلَتْ الوُصُولَ لأَبي عَبدِاللهِ الَّذِي كان هَاتِفُهُ الجَوَّالُ مُغْلَقًا، والَّذِي زَادَ في غَلَيانِ فُؤَادِها أنَّ صاحِبَ عَبدِاللهِ المُقَرَّبَ أَجابَها -عِنْدَما اتَّصَلَتْ بِهِ- أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ولا يَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ. هَكَذا قَال وشَعَرَتْ بِنَبْرَةٍ مُرِيبَةٍ فِي صَوْتِهِ. رُبَّما بِسَبَبِ القَلَقِ.

ساعاتُ الانتِظارِ القاتِلَةُ مَرَّتْ أَحْقابًا عَلَى أُمِّ عَبدِاللهِ قَبْلَ أَنْ تَسْمَعْ صَوْتَ المُفْتاحِ يَدُورُ في قَلْبِها، وعِنْدَما بَدَأَ البَابُ يَنْشَقُّ أَتَمَّتْ هِيَ فَتْحَهُ بِسُرْعَةٍ وَتَلَقَّتْ وَلَدَهَا في حُضْنِها بَاكِيةً مُعاتِبَةً حَتَّى أَنَّها لَمْ تَلْحَظْ لِلْوَهْلَةِ الأُولَى الذُّهُولَ والإِعْياءَ والحُزْنَ المُؤْلِمَ الَّذي كان يَعْتَصِرُ قَلْبَهُ ويَشُلُّ تَفْكِيرَهُ. يا حَبِيبي لَقَدْ شَغَلْتَنِي عَلَيْكَ كَثِيرًا … والحَمْدُ للهِ أَنَّكَ بِخَيْرٍ، لَكِنِّي يَا وَلَدِي قَلِقَةٌ عَلَى أَبِيكَ فَقَدْ تَأَخَّرَ كَثِيرًا وَهُوَ جَوَّالُهُ خَارِجُ التَّغْطِيَةِ.

انْفَجَرَ عَبدُاللهِ بِالبُكاءِ والنَّحِيبِ والأُمُّ ذَاهِلَةٌ تَجْهَدُ لِطَرْدِ الأَفْكَارِ السَّوْداءِ المُتَزَاحِمَةِ عَلَى قَلْبِهَا حَتَّى كادَتْ أَنْ تُوقِفَهُ! وَقَبْلَ أَنْ تَنْطِقَ بِشَيءٍ سَبَقَهَا عَبْدُ اللهِ بِكَلِماتٍ خَالَطَتْهَا دُمُوعُهُ. لَقَدْ شَاهَدْتُهُ يا أُمِّي. شَاهَدْتُ أَبِي. شَاهَدْتُهُ يا أُمِّي والتَقَتْ عَيْنايَ بِعَيْنَيْهِ. وكان يَرْتَدي ..لا ..لا .. وَاختَلَطَتْ الحَشْرَجَةُ والبُكَاءُ بِكَلِمَاتٍ خَافِتَةٍ بَيْنَما كَانَ هَاتِفُ المَنْزِلِ يَرِنُّ.

فِي اليَوْمِ التَّالي خَيَّمَ الحُزْنُ والأَلَمُ والصَّمْتُ عَلَى دَارِ العَائِلَةِ خِلالَ مَرَاسِمِ الجَنَازَةِ.

اظهر المزيد

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى