يشبههُ كثيرًا وإنْ لم تربطه أية علاقة بالفيزياء.. إنّه الأستاذ “صدقي” مدرس اللغة العربية،ما زالت صورته” عالقةً بأذهاننا رغم عشرين عاماً مضت أصبحتْ خلفنا وتركَتنا أمام أقدارِنا وكلٌّ ميسّرٌ لِما خُلق له.. على عديد الجهات كان الشتات فينا، فمن طلاب مدرستنا الابتدائية القديمة من عاد إليها مدرّسًا بعدما استكمل تعليمَه الجامعيّ وكأنّ شيئًا ما يربطه بالمدرسة و ما حولها.. الطريق العتيقة.. الدكاكين القديمة وذكرياتها..منا من سارت به الأقدار آلافًا من الكيلومترات حتى استقرّ في سواحل أمريكا وربما أبعد من ذلك.. لكن الأستاذ صدقي كان متميزًا في عطائه للطلاب، كان يَطلُع علينا كلّ صباحٍ بعينيه الجاحظتين وشعره الكثّ الممتدّ يمينًا وشمالا كسَعفيْ نخيل تطرّفا عن وجهٍ متجعدٍ وأذنين مرتخيتين تكاد شحمتاهما تلامسان خديه المتوردين. الشعرالأبيض في صدره نفر من قميصه ليعلن بصرامة أنه جاوز الستين آنذاك، لكنّه كان خفيفَ الحركة حادّ الصوت والأهم من ذلك دقتُه في تصويب أصبع الطبشور على رأس زميلنا المشاكس “عطا” الذي لم يفتأ يثيرُ الشغب في الصف.. “عطا” خلعنا عليه لقب “أبو رأسين” بعدما كشفت حلاقته على المستوى الصفر عن تضاريس عجيبة. كان التصويب دقيقاً لدرجة أننا تأكدنا أن الأستاذ صدقي-آينشتاين- كان يقدّرُ المسافة وزاوية القذف بين أصبع الطبشور و قرعة عطا.
اللغة العربية كانت درسًا ممتعًا بالنسبة لي، عشقتُ حصة التعبير أو الإنشاء كما كانت تسمى. أما حصة النحو فلم أكن أفضلها لكنني لم أكن لأتبرمَ من حضورها. كان يردّد مقولة الشعبيّ أن النحو في اللغة كالملح للطعام لا غنى عنه.. فننواجهه بتندّر ونقول لا بأس بصيام ذلك اليوم إذن!
ما زلت أذكر مقولة :أكلوني البراغيث وأشكالها في النحو، وأستعيد دروس العربية أمام ناظريّ.
كان ولا بدّ وكلما عدتُ من غربتي أن أقصد الحيّ الذي ضمني في صباي، هو عندي كجدّي الذي كنت أتوجه لأحضانه، أتفرّس في الوجوه هكذا دون إِذْن فيربّت على كتفيّ أطراف الحي العتيق ككفّيه، أجد فيهما الدفء، يقولون الذكريات كالأرصفة؛ بإمكانك أنْ تركنَ إليها وتستريح قبل متابعة المسير، لكنها بالنسبة لي أكثر من ذلك. هي تفاصيلٌ تتشابك زمنًا و شخوصًا. ربما تنتصب أمامي ذكرى شيخٍ من شيوخ الحيّ لمجرد أن أمرّ عند عتبة بيته؛ أسمعهُ يلقي السلام عليّ مع أنه ميتٌ منذ سنين عديدة.. بوابة المدرسة الحديدية العريضة الطاعنة في القدم. صرير عجلاتها يهمسُ بي: عرفتك وعرفت في أيّ عامٍ درستَ هنا. كم شهدَتْ من ألوانٍ صبَغتها لكنها ما زالت على حالها وربما صادفت من حين لآخر من يبحث عن ذكرياته مثلي.
توقفت عندما رأيت أمام البوابة رجلاً طاعنًا في السنّ على كرسيٍّ متحرك يدفعه شابّ عشرينيّ. إنه ذاك الوجه.. الملامح نفسها لكنها تصلبت.. الشعر المتفرق على جانبي أذنين متهدلتين.. وحاجبان أومئا بقرب الرحيل، إنه هو : آيشتناين. وجدتُني بلا تردّدٍ أحييه. لكنه اكتفى بهزة من رأسه، ولا أدري إن كان يسمعني.
– أستاذ.. اتذكر أكلوني البراغيث؟؟
عرّفته بنفسي تجوّلت في تقاسيمه لأشاهدَ ابتسامةً خافتة. بينما توجهتْ أنظاري للشاب الذي يتعهد الكرسي المتحرك. فهمت أن آينشتاين قد تطاول به الدهر.
ابتسمت وتركتُ المشهد بهدوءٍ لبوابة المدرسة فهي أحفظ مني للذكريات.