الباراديغم العلمي الإسلامي.. قيمه الثقافية وخصائصه الإبستيمية (3-3)
3. الخصائص المعرفية للنسق العلمي الإسلامي
توجد مداخل عديدة لحصر الخصائص المعرفية للبراديغمات العلمية التي استوعبها النسق المعرفي الإسلامي، ويمكن أن نختار منها مدخلين أراهما أساسيين لاستيعاب طبيعة العقلانية العلمية التي أنتجت هذا التراث العلمي الضخم في تاريخ المسلمين. وهما: التكاملية والانفتاح.
⇐ أ. التكاملية
فقد كان التكامل العلمي -منذ المراحل الأولى لنشأة الفكر العلمي وتطوره في الإسلام- جزءا من التكوين البيداغوجي للمتعلم. فالعلوم الطبيعية والتعاليمية؛ (أي الرياضية) لم تكن تقل أهمية “شرعية” عن وضعية العلوم “الشرعية” ذاتها، حتى أن الإمام الشافعي وهو ثالث الأئمة الأربعة، ومؤلف الرسالة في أصول الفقه والأم في الفقه وغيرهما، يقول: “لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب” وكان يعتبره ثلث العلم[14]. كما كان الفقهاء يتعلمون الحساب ضمن ما يتعلمونه من معارف منذ تعليمهم الابتدائي، كما يفتي باستحباب ذلك، الفقيه المالكي الكبير محمد بن عبد السلام سحنون (توفي 256ﻫ/870م)، حيث نصَّ في رسالته “آداب المعلمين” على استحباب تعليم الحساب للأطفال[15]. وذلك لحاجة الفقه إليه في أغلب أبوابه، كباب الفرائض، حتى أنه يمكن القول بأن علم الفرائض كان مهدا أساسيا لنشأة تقليد حسابي في شرق العالم الإسلامي وغربه، مثلما كان علم التوقيت دافعا لنشأة التقليد العلمي الفلكي. كما أننا لا نكاد نعثر في تراجم أعلام أهل العلم بالقرآن والحديث والفقه من لم يكن له حظ من الطب والنبات والحساب والهندسة والفلك… إما حظ تعلم ودرس، أو نصيب مشاركة وتعليم، أو شرف ابتداء وإبداع. ولا نكاد نعثر -في مقابل ذلك- في تراجم أعلام أهل العلم بالطب والنبات والحساب والهندسة والفلك ونحوها، على من لم يكن له حظ من العلم بالقرآن والحديث والفقه… إما حظ تعلم وحفظ، أو نصيب مشاركة وتعليم وشرح، أو شرف إضافة واجتهاد.
بهذا نستخلص أن علاقة الدين بالعلم لم تكن في تراثنا الفقهي ولا في تراثنا العلمي أمرا عارضا، يحتاج التحريض الفكري عليه، بل كانت جزءا من آليات التفكير المستعملة في المجالين معا. وإذا كانت قواعد العلم تسهم في حل كثير من مسائل الفقه الشرعي، فإن هذا الفقه نفسه قد كان له الدور الفعال في إغناء قواعد العلم، بل وفي إبداع فروع جديدة من المعرفة العلمية، لم يكن لها أن توجد إلا به. لذلك ليس غريبا أن تظهر نظريات كبيرة في الرياضيات بسبب انشغالات عملية فقهية، كنظرية الجبر والمقابلة ونظرية التوافيق وغيرهما.
لقد كان التكامل سمة أساسية تدخل في بنية التفكير العلمي؛ إذ لا يمكن الغفلة عن واقعة أساسية، وهي أن الثورة العلمية الجديدة التي شهدها العالم الإسلامي القديم، إنما حدثت نتيجة لتغيير حضاري شامل أحدثه الإسلام في البيئة العربية أولا والبيئات التي فتحها المسلمون ثانيا. ويترتب على ذلك أن تلاحظ أهمية الوحي في تأسيس عقلية منهجية جديدة. إن العقلية الإسلامية التي قدمت لتاريخ العلوم إضافات نوعية نظريا ومنهجيا، قد تشكلت بفضل الوحي أولا. فعن الوحي (القرآن والسنة) صدرت الصياغة المنهجية العقلية للمعارف العلمية في لحظة التأسيس، وهي: علوم الوحي (التفسير والأصول والحديث…) وعلوم الآلة (اللغة والنحو…)، وعلوم الحال (الرياضيات، الفيزياء…). وانبثقت طرق الاستدلال بالتبع عن هذه الصياغة المنهجية الخاصة. وهكذا يتجلى التكامل العلمي (أو الشمولية) في بنية التفكير العلمي الإسلامي ذاته.
يترتب على ذلك أمران:
♦ الأول: “وحدة العقل والنقل”: ذلك أن تعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح السليم غير متصور أصلاً، بل هو مستحيل. كيف يكون الوحي معارضا للعقل وقد أنـزله الحكيم العليم خالق العقلاء، على رجل هو أرجح البشر عقلا وأنضجهم فكرا وأصفاهم سريرة؟ وكيف يتصور العقل معارضا للوحي إلا أن يخالطه الهوى فيفقد ميزان الحكمة وصفاء النظر؟
♦ والثاني: “قدسية الحقيقة العلمية من قدسية الدين نفسه”: وهي قدسية تبلورت من جهتين: (إحداهما) جهة الاشتراك في قيمة العلم؛ إذ يقع طلب العلم، كيفما كان وحيثما وجد، في أعلى درجات العبادة الدينية. فمحراب البحث العلمي لا يقل قدسية عن محراب العبادة الدينية. و(الثانية) جهة الوسيلة المنهجية؛ إذ دفعت قدسية الأحاديث النبوية علماء الإسلام إلي ضبط المنهجية العلمية في البحث والتنقيب، رواية ودراية، نقلا ونقدا، داخل حقل علوم الحديث وخارجه. لقد عُممت هذه القدسية على الحقيقة العلمية حيث كانت وكيفما كانت. مما أدى إلى “تشارك معرفي عام وتفاعل منهجي” خاص بين العلوم الدائرة على الوحي من أصول وحديث وفقه وعقائد… من جهة، ثم بينها وبين علوم الطب والصيدلة والرياضيات والفلك… من جهة أخرى. وهو ما يؤدي إلى تكامل في الموضوعات والمناهج داخل العلوم الإسلامية. ويتجلى ذلك في أمور ثلاثة:
أولا: “الشمول في الموضوعات“: ومعناه اتساع دائرة البحث العلمي للنظر في كل الموضوعات الطبيعية والإنسانية، وتوحيد التصور بصدد الغيب. صحيح أن البحث في العقائد هو مما لا ينبغي التوسع فيه، إلا بقدر ما يوحد تصور المسلمين عن الله والنبوة والأخرويات، ولكن السبب في ذلك يرجع إلى الرغبة في توجيه العقل المسلم نحو التفكير العلمي المنتج. ومن هنا نفهم سبب اعتراض الفقهاء والعلماء على إغراق المتكلمين في الانشغالات الجدلية. فقد كانت تعرقل فعل العقل المنهجي المنتج.
ثانيا: “التنوع المنهجي“: ومعناه تنويع الأدوات المنهجية المستعملة؛ وهو يترجم التكامل على صعيد الوسائل المعرفية المنهجية، حيث تتنوع الوسائل العلمية في الدراسة، فتنفتح على وسائل التجريب (الحس) ووسائل النظر (التدبر)، ووسائل الخبر (النقل).
ثالثا: “الوصل بين المعارف“: فمن أهم مظاهر الشمول التي تدرك بها الحقيقة التكاملية للتراث العلمي هي التداخل الذي حصل بين المعارف والعلوم في الممارسة التراثية، سواء اتخذ هذا التداخل صورة “التراتب” أو صورة “التفاعل” بين العلوم التي نبتت في مجال التداول الإسلامي العربي. هذا التفاعل المبني على المصادرة والتسليم بين العلوم. ويسميه البعض بآلية الخدمة: حيث العلوم يخدم بعضها بعضا. ينتج عن ذلك أن العلوم الإسلامية تتداخل فيما بينها، بحيث “يتَسَلَّم” بعضها نتائج بعض لتصبح مسلمات يصح البناء عليها، أو يستعير بعضها آليات منهجية تمكن من حل مسائل بعضها الآخر. وقد يأخذ هذا التفاعل صورة التداخل الجزئي بين العلوم حيث يقع بينها بعض التقاطعات المعرفية والمنهجية.
وقد يأخذ التفاعل أيضا صورة الوصل أو التقريب بين الأجنبي المنقول وبين البراديغمات العلمية الأصلية: تقريبا يراعي شرائط المجال التداولي الإسلامي، وإلا فإن هذه البراديغمات تلفظه لفظا.
وقد يأخذ الوصل صورة الربط بين جانبي المعرفة النظري والعملي. فالعمل مفيد في إنتاج الدلالة؛ إذ هو إجراءات تكيفية في العلوم، وتمييز بين الخير والشر، وتعلق للعلم بالاستعمال والتخلق السلوكي.
⇐ ب. العقل النقدي المنفتح
لما كان هذا العلم الناشئ يعبر عن عقلانية جهوية خاصة يمليها المجال التداولي الإسلامي، فإن نقل المعارف العلمية الأجنبية كان مصحوبا بالشك والنقد، في المجالات الرياضية والطبيعية. وأما في المجالات الثقافية الموصولة بالفلسفة النظرية فكان الشك رفضا، والنقد نقضا. لقد كان الحوار العلمي نقديا لا نقليا. لذلك يمكن حصر خاصية الانفتاح في أربع سمات:
- 1. النقد: ويتجلى ذلك في ما يعرف بظاهرة الشكوك على الآخرين: كما فعل الرازي وابن الهيثم مثلا، حيث بين الرازي في شكوكه على جالينوس وابن الهيثم في شكوكه على بطليموس أن من دلالات الشك ودواعيه: وجود ألفاظ بشعة، ومعاني متناقضة، والأغلاط التي تمس أصول العالِم التي قررها ولا تقبل التأويل ويلزم عنها المحالات الفاحشة. ولذلك يرتقي الشك إلى عملية إعنات ومعاندة، وإخراج كل الاعتراضات الممكنة على معاني النصوص العلمية[16]. وكان هذا النقد موجها كذلك للمصادر العلمية الإسلامية، فقد ألف العلماء المسلمون كتبا نقدية عديدة لمؤلفات بعضهم، في مختلف المجالات العلمية كالطب والصيدلة والفلك وغيرها.
وقد يأخذ هذا النقد صيغ الحجاج والتناظر والجدل: فالعقائد الإسلامية الجديدة وقوة العلوم الرياضية والتجريبية الناشئة قادا الفكر العلمي في اتجاه مخالف في الغالب للفلسفة المشائية الأرسطية، التي كانت تمثل مجالا حضاريا مخالفا للمجال الحضاري الإسلامي الجديد. وكانت الأرسطية قد تحولت في المجال التداولي الأوروبي الوسيط بالفعل إلى نسق عقلي مغلق، فحمل الفقهاء لواء هذا التحرر العقلاني، بينما حرم منه الفلاسفة بسبب نـزعتهم الأرثوذوكسية المتعصبة للتركة العلمية الأرسطية.
- الانفتاح المنهجي: الذي لا يغلق العقل على نموذج منهجي. ويرتبط ذلك بخاصية التنوع المنهجي، وذلك بالجمع بين الطرق التجريبية التطبيقية والأبنية التجريدية الرياضية فضلا عن القواعد الشرعية وأصولها في التعليل والتدليل. وكل ذلك بخلاف الانغلاق المنهجي الفلسفي الذي حصر نموذج البرهانية في كتاب التحليلات الثانية لأرسطو، فتميزت منهجية التفكير -عند السلفية الفلسفية التي كان ابن رشد من أبرز أعلامها- بالأحادية الضيقة.
- النسبية:وعلامتها الاعتراف بالنقصان الطبيعي، وقابلية الفكر العلمي للخطأ بسبب العوائق الذاتية والموضوعية التي تحول دون بلوغ الحقيقة النهائية المطلقة الكاملة. وكل ذلك في مقابل دعوى الحقيقة المطلقة التي حصرت منهجيا في المنطق الصوري البرهاني، ونظريا في النموذج العلمي الأرسطي الذي لم يترك لمن بعده شيئا يقال. مما جعل الفكر العلمي الذي اشتغل خارج السياج الأرسطي الجامد أقدر على الحوار الثقافي مع الآخر، واكتشاف أخطائه، مع الاعتراف بفضائله.
- الالتزام بأخلاق البحث العلمي: ويتجلى ذلك في مظاهر عديدة من أهمها:
أولا: الوعي بالعوائق الذاتية: ويمكن الاستدلال على ذلك بمثالين:
أ. يقول أبو الريحان البيروني في مقدمة كتابه “الآثار الباقية” شارحا منهجه: إنه يجب “تنـزيه النفس عن العوارض المردئة لأكثر الخلق والأسباب المعيقة لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة والتعصب والتظافر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة وأشباه ذلك[17].” ويحذر من العصبية في العلم بقوله: إن العصبية تعمي الأعين البواصر وتصم الآذان السوامع وتدعو إلى ارتكاب ما لا تسامح باعتقاده العقول [18].”
ب. يبين أبو بكر الرازي (توفي 313 ﻫ/925م) في كتاب الشكوك على جالينوس، الأسباب الداعية إلى مراجعة المتأخرين لكلام المتقدمين، واستدراكهم عليهم، فيختصرها في نوعين من الأسباب: الأول: ذاتي: يتمثل إما في “السهو والغفلة الموكلة بالبشر” أو “غلبة الهوى على الرأي في رجل من الناس لأمر ما يقول فيه خطأً، إما وهو يعلم، وإما وهو لا يعلم [19].”
ثانيا: دقة النقول:وذلك بنقد مصادر المعرفة العلمية سندا ومتنا، ومنها مصادر علماء الأمم الأخرى، ونأخذه من كلام ابن البيطار في مقدمة موسوعته العلمية الشهيرة الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، حيث قال: “ووصفت فيها عن ثقات المحدثين، وعلماء النباتيين ما لم يصفاه، وأسندت في جميع ذلك الأقوال إلى قائلها، وعرفت طرق النقل فيها بذكر ناقلها، واختصصت بما تم لي به الاستبداد وصح لي القول فيه ووضح عندي عليه الاعتماد[20].” ثم قال مبينا منهجه في التعامل مع هذه المصادر: “فما صح عندي بالمشاهدة والنظر وثبت لدي بالخبرة لا الخبر ادخرته كنـزاً سرياً وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سوى الله غنياً، وما كان مخالفاً في القوى والكيفية، والمشاهدة الحسية في المنفعة والماهية للصواب والتحقيق أو أن ناقله أو قائله عدلاً فيه عن سواء الطريق، نبذته ظهرياً وهجرته ملياً، وقلت لناقله أو قائله لقد جئت شيئاً فرياً، ولم أحاب في ذلك قديماً سبقه، ولا محدثاً اعتمد غيري على صدقه[21].”
ثالثا: حماية لغات الآخرين: فهؤلاء العلماء حفظوا مصطلحات غيرهم من الضياع، فكانوا يتقنون لغات غيرهم ويستعملون اصطلاحاتهم العلمية. فقد كان أبو الريحان البيروني، مثلا، عالما فارسيا معجبا باللغة العربية إلى درجة أنه فضل أن يهجى بالعربية على أن يمدح بالفارسية، ومع ذلك فقد أتقن سبع لغات، وألف كتابه في علم العقاقير (الصيدلة في الطب) جاعلا أسماء العقاقير بالعربية واليونانية والسريانية والسنسكريتية والفارسية. كما أن ابن البيطار عالم النبات والصيدلي الكبير، كان يتقن خمس لغات، وألف كتابا يعتبر من أهم مصادر الأعشاب والأدوية في أوروبا إلى حدود القرن 18م، فكان يذكر أسماء تلك الأعشاب والأدوية بخمس لغات كان من بينها اللاتينية والبربرية.
آفاق تجديد التقاليد العلمية الدارسة
↵ التقليد والتجديد: إذا أخذنا بالمفهوم الإبستمولوجي للتقليد العلمي، فإن غياب وجود تقاليد علمية في مجتمع ما هو علامة نكوص حضاري، وانحلال في النسق الثقافي القادر على إنتاج براديغمات علمية منتجة. لذلك نحن مطالبون بخطوتين متلازمتين:
أولا: تجديد التقليد: لم يشع من معاني التقليد إلا معناه القدحي الموجود في كتب علم الأصول، وهو قبول قول الغير من غير سؤال عن الأدلة التي بني عليها. وأن هذا “التقليد” إن جاز في حق العامي من الناس، فلا يجوز في حق العلماء المجتهدين. ولا ندري حقيقة المأخذ اللغوي الذي نشأ عنه هذا الاصطلاح الشائع. فأغلب الأصول الدلالية لمادة (قلد) توحي بعكس هذا المعنى، إلا أن يكون تطور عن أصل الالتزام بالجماعة، وهو من أهم هذه الأصول الدلالية، لكن الأصل فيه الإحالة إلى مقام طبيعي يقوم فيه الإنسان مجتمعا مع غيره موافقا ومشاركا[22]، فالتقليد انتساب إيجابي لجماعة، تلتئم به الجماعة، ويتقوى به الفرد ويتشرف، ويحصل به الانتفاع للطرفين. ولذا فذم التقليد ناتج عن تطوير لمعاني الغلبة والاحتواء والغرق في الجماعة بعيدا عن معاني الحمل والاحتمال والتشريف والتقوية والتكليف والانتفاع، وكلها معاني تتردد في كل المعاجم اللغوية الكبيرة[23].
كيفما كان الأمر فإن التقليد في اصطلاح المشتغلين بالإبستمولوجيا وتاريخ العلوم هو: “مجموع الأصول والقواعد الحية والمنتجة التي تأسست عليها المناهج والمعارف العلمية في مجال تداولي معين[24].” فإذا كان الأمر كذلك، فإن حاجة العلماء المسلمين إلى هذا التقليد العلمي من آكد الحاجات. وقد تبين فيما تقدم أن عملية تأسيس تقاليد علمية -ومن ثم مجتمع العلم- ليست بالعملية الفردية البسيطة. إنها حركة أمة بكاملها. قد تفعل فيها الجماعات العلمية فعلا ما، لكنه يظل محدودا قابلا للانكسار في أية لحظة ما لم يقرر المجتمع نفسه بمثقفيه وسياسييه واقتصادييه… أن يتبنوا هذه الحركة.
ثانيا: تجديد التجديد: فليس التجديد تغييرا متنكرا لكل تقليد، فيكون إفسادا للفكر والقيم[25]، وإنما المطلوب في التجديد تحرير الفهم من العقم، ووقاية الفكر من داء فقدان المناعة الشرعية المكتسبة. وإنما هو داء عضال يصيب العقل المفكر حين يخمد قدراته التحليلية والنقدية، ويسلم ذاته لكل موجة تصيب منه الانفعال، وتستدرجه إلى مَقاتِلِه. وذلك عكس التجديد -حتى بالمعنى اللغوي-؛ إذ تدور مادة (جدد)[26] على السعي الجاد المتروي المفيد في طريق واضح مستقيم. فجُدَّة كل شيء طريقته، والجمع (جُدَد)، والجادة الطريق المستقيمة المستوية الواضحة، والجديد والجَدَد وجه الأرض، والأرض المستوية، وفي المثل: “من سلك الجد أمن العثار” وفسره ابن منظور بالإجماع، وما ذلك بالبعيد عن معنى التقليد أيضا! على أن الجد نقيض الهزل، والاجتهاد في الأمور، وأيضا بلوغ الغاية من الشيء، كما يقال هذا عالم جد عالم؛ أي بلغ الغاية في ما يصفه من الخلال. وكذلك: العظمة، كما في الآية: ﴿وأنه تعالى جدّ ربنا﴾ (الجن: 3)، وفي الدعاء “تبارك اسمك وتعالى جدك”، وفي حديث أنس: أن الرجل كان إذا حفظ البقرة وآل عمران جدَّ فينا؛ أي عظم في أعيننا. وربما لهذا المعنى سمي أبو الأب وأبو الأم جَدّا لما له من وقار وهيبة عند الأبناء والأحفاد. فهل يكون التجديد بعد هذا شرودا عن كل استقامة في الفكر والسلوك، وتنطعا في العلم، وتنكرا للتقاليد العلمية الرصينة؟! نعم، إن الجِدَّة نقيض البلى والخلَق، ومنه تجديد الوضوء والعهد. ولكن المتأمل في هذا الأصل لا يجده منفصلا عما تقدم؛ لأن التجديد هاهنا إنما هو عود إلى الأصل النقي برفع ما تراكم عليه من أوساخ أفسدت الأصل، ومن غبار السنين العجاف الخالية من كل فعل منتج[27]. ألا إن التقابل بين التجديد والتقليد غير دقيق من الناحية اللغوية، فإذا كان التجديد اجتهادا ومثابرة وسلوك مناهج دقيقة مستقيمة، فإن الاجتهاد مجال تلاقح التقليد والتجديد؛ لأنه لا اجتهاد إلا بعد التخصص بالدخول في أحضان التقاليد العلمية الراسخة، والتشبع من براديغماتها، ولأنه لا تجديد إلا بسلوك طريق نافع جاد ينقذ الجماعة العلمية (والقِلد في اللغة الجماعة من القوم!) من البلى الفكري. وإلا كان التجديد يبوسة وفقرا، وكان المجدد (جُدَّاء) وهي البقرة المعطوب ضرعها، فهي غير منتجة!
فإذا تبين ذلك، فاعلم بأن الهدف من العناية بتاريخ العلوم الإسلامية ليس الوقوف عند الإنجازات الكبيرة التي حققها العلماء الأسلاف، الذين يعدون بالآلاف، والرد على نظرية النقل التي روج لها دعاة المركزية الأوروبية، فهذا هدف قد تحقق، والوقوف عنده نكوص إلى الخلف، وبكاء على الأطلال.
كلا، وليس الهدف من التأليف في مجمل النتائج التي خلفها التراث العلمي للمسلمين دعوة المسلمين إلى بناء فكر علمي وتنمية علمية على تلك النتائج، ففي هذا إلغاء لقرون عديدة من الإضافات والتصحيحات التي جعلت جبل العلم يعلو شامخا، يتجاوز ما أنجزه الأسلاف على أهمية ما أنجزوه، والوقوف عند ما أنجزوه خيانة للأسلاف أنفسهم الذين ارتفعوا عاليا؛ لأنهم وقفوا على أكتاف العظماء: فراجعوا وحققوا، وفكروا ودققوا، وأعادوا سبك المناهج، وتصيدوا أفضل النتائج.
إن الوقوف عند ترداد الإنجازات والنتائج وقوف عند ظاهر من المعرفة العلمية في تاريخ العلوم الإسلامية، وغفلة عن حقيقتها؛ أعني عن طبيعة العقل الذي أنتجها: ما هي مصادر تفكيره العلمي؟ وكيف كان اشتغاله؟ ما خصائص العقلانية العلمية الإسلامية؟ وما هي تجلياتها في الأنساق المعرفية المختلفة، وفي الممارسة العلمية “الدقيقة”؟ ما طبيعة المجتمع الذي أنتجها؟ وما علاقة المعرفة العلمية بالمؤسسات الاجتماعية التي تحتضنه أو تنقله أو تموله أو توجهه أو تربطها به أنحاء أخرى من العلاقات؟
فتلك العقلانية الجهوية الحية المنتجة هي التي ينبغي تجديدها.
وتلك المؤسسات التي غابت اليوم عن مسرح الحياة العلمية، أو وقف فعلها عند مسوخ شكلية لا تنتج علما ذا بال، أو تكتفي بالوقوف في أحسن الأحوال على عتبة الماضي وما خلفه من أطلال، هي التي ينبغي تجديدها وتفعيلها لتعيش حاضر العلم، وتسهم بقوة أسسها العقلانية في توجيه مساراته، وبناء نتائجه، وتحقيق مآلاته الإنسانية النافعة.
↵ مجالات التجديد: ينبغي أن يتجه التجديد العلمي في اتجاهات ثلاث:
أ. تجديد الموضوعات: وذلك بالتركيز على مدخلين أساسيين في دراسة الموضوعات المادية والإنسانية، وهما:
ـ المدخل الإشكالي: وهو البحث في الإشكالات التي ترسو تحت جبل المعارف التي خلفها تراثنا العلمي أو التي نستوردها من تراث غيرنا، بسبب فترة طويلة من تجمد البحث، وركون العلماء والباحثين إلى ترديد كلام المتأخرين ممن أغلق منافذ تفكيرهم الحي جنوح إلى سجن المنظومات والخرافة والشطح الصوفي، أو إلى ترديد كلام المتغربين ممن أغلق منافذ تفكيرهم ميل إلى سجن الإيديولوجيات والإعجاب إلى حد التماهي مع كل ما هو غربي. المدخل الإشكالي يدرب العقل على الحس النقدي الذي ماز به علماؤنا الأسلاف وظهروا به على الأمم.
ـ المدخل المفهومي: وهو البحث في المفاهيم العلمية التي هي بالتعريف مداخل العلوم المختلفة. فأغلب جدالاتنا العقيمة سببها خلط المفاهيم، وكيف يحرر نـزاع لم تحرر لغته؟ وكيف تحرر لغة حوار لم تحرر أبنيتها المفهومية؟ المدخل المفهومي يدرب العقل على التريث والتروي بدل التسرع في القول والحكم، وإنما تنشأ البراديغمات الحية بفضل عقول عظيمة يلجمها هذا التأني عن شطط القول والفعل.
ب. تجديد المناهج: وذلك بمراعاتها شروطا ثلاثة في كل خطوة منهجية يسلكها البحث العلمي، ألا وهي:
ـ القواعد السياقية، وللتقاليد العلمية الأصولية لدى المسلمين إسهام لم يستنفذ عشر معشار أغراضه إلى اليوم.
ـ تكامل الأدوات: وقد تبينت لنا فاعليتها فيما تقدم من حديث عن خاصية التكامل، وللتقاليد العلمية الإسلامية والمعاصرة معا دروس منهجية مهمة ينبغي الوقوف عندها مليا، بدل أن نوليها وجهنا ظهريا، وننقلب إلى دراسات تجزيئية ومسالك انتقائية لا تؤدي إلا إلى آراء تحكمية، ونـزاعات مذهبية، تفسد حركة البحث العلمي الرصين.
ج. تجديد الآنساق النظرية: وذلك بالتركيز على مدخل أساسي في التعامل مع كل النماذج النظرية السائدة، ألا وهو المدخل النقدي، الذي ينبغي تصريفه في اتجاهات ثلاثة:
- في اتجاه التراث العلمي الموروث.
- في اتجاه مدارس القراءة والتأويل.
- في اتجاه النماذج النظرية الدقيقة وتاريخها.
خاتمة مفتوحة
كان المجتمع العلمي الإسلامي بناء حضاريا صنعه رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن محاريب العلوم. فمتى يشق فقهاؤنا اليوم الطريق إلى المجتمع العلمي؟
سؤال للحلم والعلم، وهما فاتحة الأعمال الكبيرة في تاريخ العلوم!
[14] آداب الشافعي ومناقبه: ص321.
[15] ابن سحنون، محمد بن سعيد، كتاب آداب المعلمين، تقديم وتحقيق مقارن محمود عبد المولى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1969.
[16] ينظر: ابن الهيثم، الحسن بن الحسن، الشكوك على بطليموس، تحقيق عبد الحميد صبرة ونبيل الشهابي، دار الكتب المصرية، القاهرة، ص4، 63 مثلا، و الرازي، أبو بكر محمد بن زكريا، الشكوك على جالينوس، تحقيق وتقديم مهدي محقق، طهران، 1993م، ص1 وما يليها.
[17] أبو الريحان البيروني، كتاب الآثار الباقية، تحقيق أدوارد سخاو. الطبعة الأولى. ليبزج عام 1878م ص 4
[18]. المرجع نفسه، ص66.
[19]. أبو بكر الرازي، كتاب الشكوك على جالينوس، ص2-3.
[20]. ابن البيطار (أبو محمد عبد الله بن أحمد)، الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، بيروت: دار صادر، 1980، المجلد 1، المقدمة.
[21]. المرجع نفسه.
[22]. حمو النقاري، في المفهوم من التقليد والتجديد، ضمن: التقليد والتجديد في الفكر العلمي، الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة الندوات والمحاضرات، رقم 106، ط1، 2003، ص17-18.
[23]. ينظر هذه المعاني لمادة (قلد) في: ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، بيروت: دار صادر، د. ت، ومعجم مقاييس اللغة، ابن فارس، أبي الحسين أحمد، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، دار الفكر، د. ت. وغيرهما.
[24]. إدريس نغش الجابري، دراسات في فلسفة العلوم الإسلامية وتاريخها، ص 172، وأيضا: حمو النقاري، في المفهوم من التقليد والتجديد، ص17-29.
[25]. ومن لطيف الملاحظات المصطلحية أن مفهوم التغيير -بعكس ما هو شائع- لم يرد في القرآن الكريم إلا بمعنى التحول من الصالح إلى الفاسد ومن النعمة إلى النقمة، وهذه هي موارد لفظ التغيير في القرآن الكريم: ﴿وءلامرنّهم فليغيرن خلق الله﴾ (النساء: 118)، ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة اَنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (الانفال: 54)، وبنفس المعنى في آية: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وَّال﴾ (الرعد: 12)، ﴿فيها أنهار من ماء غير ءاسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه﴾ (محمد: 16).
[26]. انظر: لسان العرب، لابن منظور، ومعجم مقاييس اللغة، لابن فارس.
[27]. وبهذا المعنى ورد اللفظ في حديث تجديد الدين الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.