واصلت تجوالي في قرية كور ذات التراث والتاريخ بدون كلل ولا ملل، فالتجوال بين هذه القصور الضخمة والشاهدة على زمن طويل من تاريخ فلسطين له نكهة مختلفة عن كل المناطق التي تجولتها في الوطن وخارج الوطن، وكانت وجهتنا قصر الشيخ عساف الجيوسي وهو من ابناء عمومة الشيخ يوسف الواكد، بعد أن انهيت وبرفقة صديقي مرافق العديد من جولاتي الأستاذ سامح سامحة وبمرافقة مضيفنا الأستاذ فريد عصمت الجيوسي جولتنا في قصر الشيخ عبد الله الجيوسي، كنا نتجه لقصر الشيخ عساف الجيوسي أو ما تبقى من هذا القصر الكبير والذي تعرض بغالبيته للدمار والخراب، فأطللنا على الساحة حيث الجزء الأيمن من القصر ما زال قائما ويظهر انه كان مسكونا او ما زال في القسم العلوي منه حيث وضعت على اعلى النافذتين حواجب للشمس والمطر، وهذه الواجهة مكونة من طابقين وكما كل قصور كور كانت النوافذ في الطابق العلوي والأبواب في الطابق الأسفل، حيث يوجد باب مغلق ببوابة معدنية وهو قوسي كما بيوت العقود القديمة، ولكن واضح انه بوابة جانبية وليست رئيسة، وحين وصلنا للقسم الثاني المجاور من القصر شاهدنا حجم الخراب والدمار، فالساحة خرابة والجدران مهدومة والعقود متساقطة وما تبقى منها ينتظر دوره، بحيث كان مخاطرة كبيرة مجرد المحاولة للدخول لهذه الغرف بالأسفل ذات الأبواب القوسية حيث تراكمت الأتربة والأنقاض حتى وصلت لأعلى البوابات، وما تبقى من الجدران اجتاحته الشقوق معرضة اياها للإنهيار بكل لحظة.
ومع هذا فما زالت بعض الجدران يمكن ترميمها لتبقى واقفة لايقاف عمليات الانهيار وشاهدة على تاريخ فلسطين، فبعض الجدران ما زالت تظهر فيها الطلاقات التي كانت تطل على الخارج وتشكل نقاط دفاعية، وما زالت بعض الأقواس للابواب صامدة رغم اغلاقها بالحجارة لتوسيع مساحات السكن في السابق، فيمكن ازالة هذه الحجارة وترميم هذه الأقواس، حتى البئر المغطى الآن بقضبان معدنية يمكن وضع خرزة لبوابته وتنظيف الساحات وترميمها لتعود لبعض من ألق، وعلى يمين القصر ورغم انهيار الابنية في الأعلى إلا أن واجهة داخلية ما زال بالامكان الحفاظ عليها كما بعض الغرف بجوارها، وفي الأسفل ورغم الخراب الكبير يمكن بجهد مناسب ترميم ما تبقى من باحة القصر، وقد تمكنا بجهد من الدخول للغرفة السفلى على طرف الساحة اليمنى والتي كانت تستخدم سجنا لمن لم يكن يلتزم بدفع الضرائب من سكان منطقة المشيخة، فعلى ما يظهر أن الشيخ كان يتولى القوة التنفيذية بالمشيخة فلم أر سجنا الا في هذا القصر، والسجن به فجوات متجاورة بالجدران قوسية من الأعلى ويفصل جدار بعرض حجر ونصف حجر كان يجلس بها السجين ويتم تقييده، والسجون كانت سمة موجودة في كل مقرات قرى الكراسي للعقاب لمن يخالف الشيخ أو لا يلتزم بدفع المبالغ المفروضة عليه، وإن كان هناك في بعض قرى الكراسي التي زرتها سابقا من ظلم كثير وأساء استخدام سلطاته، حتى ان احد المشايخ في احد قرى الكراسي في منطقة أخرى كان يسجن الناس في البئر ظلما وعدوانا.
من جوار السجن وعلى درج حجري شبه متهالك صعدت للأعلى ووقفت على حافة الجدار المنهار رغم خطورته والتقطت الصور من الأعلى للأسفل والمشاهد المحيطة والرموز المنقوشة على حجارة البوابات وبجوارها وعلى الجدران، ولحقني صديقي الاستاذ سامح والذي وقف ينظر بألم فوثقت بعدستي قسمات وجهه المتألمة، وقد نسي مع ما شاهده من خراب أنه صعد ليجعلني انزل ولا اتهور بالحركة في هذا الموقع الخطر، وحين تذكر وانهيت التصوير نزلنا معا لنغادر القصر الذي يشكو ما جار به الزمان عليه حتى أصبح كهلا متهالكا لا يجد من يعتني بشيخوخته، مغادرين برفقة مضيفنا لنجوب دروب كور قبل انهاء جولتنا، مارين بالعديد من القصور المختلفة الأحجام والوضع الراهن لها بين مرمم ومسكون وبين مدمر جار عليه الدهر وبين ما هو في حالة معقولة يمكن ترميمها والاهتمام بها، وقد لفت نظري الزخارف المنقوشة على الجدران والرموز ذات الدلالات على الوضع الذي كان به صاحب القصر أو البيت، وعلى واجهة زاوية أحد القصور كانت هناك لوحة حجرية منقوش عليها بعض من أبيات الشعر داخل اطار حجري منقوش بشكل جميل، ومررنا عن العديد من البوابات القوسية الضخمة التي كانت وأغلقت.
مررنا من امام بوابة كور الجنوبية وهي بوابة من اثنتين وهي مدخل لبيت الحاج عبد القادر، وبها الآن بيوتات سكن للأصدقاء الحاج نمر والأخ ناهض، وعلى أعلى البوابة حجر كان منقوش عليه أبيات من الشعر ولكن تم تخريب الحجر وتكسيره اما على يد العابثين أو محاولة لخلع الحجر وسرقته، لنصل إلى البوابة الشمالية حيث مدخل لقصر الشيخ حسن الجيوسي وهو من ابناء الشيخ يوسف الواكد، وأعلاها ايضا لوحة حجرية منقوش عليها ابيات من الشعر ولكن البوابتان مغلقتان بالحجارة والطوب، فقد كان لكور بوابتان منها فقط يتم الدخول للبلدة، أما الجهة الخلفية فلم تكن مسورة فقد تم الاكتفاء بأسوار القصور الضخمة من جانب، وبالمانع الطبيعي الذي لا يسمح للغزاة بالوصول بسهولة من الخلف، فأكملنا التجوال في عبق هذا التاريخ الحافل والتراث المتميز، فالتراث ذاكرة شعبنا يتوارثه الأحفاد عن الأجداد وهو الحافز للتغيير، لذا من الضرورة الآن الحفاظ عليه وصيانته ليروي لأحفادنا بعض من ذاكرة الوطن، لذا اعتدت في جولاتي في الوطن على التركيز على التراث والتكوين المعماري له، فهذه سمات خاصة لتراثنا المتوارث.
كور تضم في جنباتها وحسب الاحصائيات 30 قصرا وبيتا تراثيا متميزة بتصميمها وتكوينها المعماري، وهذه تحتاج الى اهتمام كبير فكور تميزت عن غيرها بهذه العدد الكبير من القصور الضخمة والأبنية المتميزة فشكلت قرية تراثية مهمة تمتلك نقاط كثيرة للجذب السياحي وراوية لمراحل وعصور من الحضارات المتعاقبة، قرية تحتاج إلى دراسة وتوثيق المعلومات والترميم وتحويلها إلى خط مسار سياحي يشكل درة التاج في اثار وتراث منطقة طولكرم، يعيد ذاكرة التاريخ ويشكل مصدرا للدخل ويفيد السكان معنويا بالحفاظ على التاريخ وماديا من خلال السياحة، وكور ينطبق عليها تعريف معاهدة اليونسكو عام 1976 حيث عرفت الاماكن التاريخية انها: “هي كل مجموعة من الأبنية والمساحات الفضاء، بما فيها المواقع الأثرية التي تشكل مستوطنة بشرية في بيئة حضرية أو ريفية، يعترف بتماسكها وقيمها من الناحية الأثرية أو المعمارية أو التاريخية أو الجمالية أو الاجتماعية أو الثقافية” وحسب اتفاقية البندقية لعام 1964 أيضا “الموقع التاريخي هو مجموعة مباني تقدم أهمية تاريخية وأثرية وفنية، والتي قد يتسع إطارها ليشمل مدينة بأكملها.”
عدنا إلى مدخل البلدة حيث الدوار الصغير المزروع به نخلة وقربه يافطة ترحيب بزوار البلدة عليها بعض من الشعر المنقوش على بوابة قصر الشيخ يوسف الواكد والذي تحدثت عنه في الحلقة الأولى، ووصلنا لمسافة قريبة من قصر الشيخ داود وهو من ابناء الشيخ يوسف الواكد والذي حكم كور ومشيخة الصعبيات بعد شقيقه الشيخ حرب، ويظهر ان التعب كان قد نال من صحبي فوقفوا يتبادلون أطراف الحديث، فتركتهم وذهبت للقصر وحيدا مع عدستي فدخلت ساحة القصر من فتحة منهارة بالسور الاسمنتي على الشارع ووقفت اتأمل هذه المساحة العمرانية والابداع فيها، وعلى ما يظهر انه جرى قسمة القصر الى قسمين حيث يفصل الأرض بينهما سور من الاسمنت يصل الى جدار القصر المتلاصق، فأبنية كور كانت مستقلة ومتباعدة وهذا التلاصق يشير ان المبنى كان بأكمله قصراً واحداَ وقسمه الورثة، وواضح أن القسم الآخر ما زال مسكونا ومستغلا، ولذا سأتحدث عن هذا الجزء الذي شاهدته فهو يستحق الاهتمام، وواجهة القصر تتصدرها بوابتان ضخمتان على شكل أقواس من الأعلى وهما يفضيان لباحة القصر كالمعتاد، ولكن على يمين القصر بوابتين بنفس الشكل لكن اصغر حجما بكثير، وعلى اليسار بوابة قوسية ايضا لكن أصغر حجما، وبين البوابات الجانبية اليمنى وبوابات واجهة القصر الكبيرة توجد بوابة مستطيلة الشكل، تشكل مدخل لدرج حجري يتم الصعود من خلاله للطابق الثاني من القصر حيث أمكنة السكن والاقامة، واضح أن القصر بني على شكل اجزاء متلاصقة ولكن منفصلة عن بعضها، فالطابق الثاني من الواجهة الأساسية للقصر وفوق البوابات الكبيرة، لكنه مهدوم فوق الجزء المجاور فوق البوابات الأصغر حجما ولم يتبق منه الا الواجهة فأسقفه انهارت ومن الجهة الخلفية انهارت الجدران، والنوافذ كانت مستطيلة الشكل وفي الطابق الثاني فقط وفي الواجهة كانت نافذتان فقط فوق الأبواب الرئيسة وطاقتان على الجوانب، والبوابات للدخول لباحة القصر مغلقة بالطوب مما لم يترك لي المجال للدخول ومشاهدة القصر من الداخل، وواجهة القصر الخلفية تعرضت للتشققات والخراب فغادرت القصر متألما من الاهمال الذي ساده عبر السنوات والقرون، لألتقي بالأصدقاء حيث اتجهنا إلى ديوان آل الجيوسي واحتسينا القهوة وتحدثنا، ومن ثم غادرنا كور باتجاه جيوس أنا وصديقي الاستاذ سامح سمحة بعد ان شكرنا بحرارة الأستاذ فريد عصمت الجيوسي على الجهد الذي بذله معنا.
بعد نشر المقال الأول اتصل بي الأستاذ فريد عصمت الجيوسي ودعاني وصديقي الأستاذ سامح سمحة الى لقاء في المجلس القروي، ووعدته أن يتم ذلك قريبا بمشيئة الله، فهي كور الأهل والأحبة وذاكرة التاريخ، كان موعدي الثاني لزيارتها برفقة صديقي ومرافق ومنسق زيارتي الأولى لها الاستاذ سامح سمحة الجمعة 25/9/2020 حيث قمنا بجولة في السيارة بين عبق التاريخ ثم وصلنا المجلس القروي، حيث ساد الجلسة الحوار حول ما كتبته بمقالاتي عن ذاكرة كور، وعن ما تتعرض له كور من اهمال كبير سواء من المؤسسات الرسمية او المدنية، لأفاجأ في نهاية الزيارة بتقديم درع تكريمي بإسم المجلس وأهالي كور، فشكرا لكور ومجلسها القروي ممثلا بالأستاذ فريد عصمت الجيوسي وأعضاء المجلس والسيد مراد الجيوسي والعزيز عزمي الجيوسي على تكريمي بهذا الدرع الجميل المعبر عن أصالة أهالي كور الأحبة والأصدقاء، وشكر كبير ايضا للأستاذ سامح سمحة الذي شاركني الفرح كما العادة في جولاتي في العديد من البلدات لكور جارة جيوس وشقيقتها المحبة، ولأهلها ومجلسها كل تقدير واحترام وللوطن نقف جميعا إجلالا لكلمة فلسطين.
صباح جميل آخر في حديقتي في وكني في جيوس قريتي الخضراء، أحتسي القهوة مستذكرا جمال وروعة جولاتي في كور التاريخ والتراث، حيث تمنيت لو أن الوقت والظرف سمح أن أجول كل بيت وقصر من ذاكرة كور، استمع لشدو فيروز وهي تشدو: “بكرا برجع بوقف معكن اذا مش بكرا البعدو أكيد، إنتو احكوني وأنا بسمعكن حتّى لولا الصوت بعيد، بلا موسيقتنا الليلة حزينة بلا غنّية ليلي بيطول، كل ليلة بغنّي بمدينة وبحمل صوتي وبمشي ع طول”، وأهمس: صباح الخير يا وطني.. صباحكم أجمل..