إشكالية الهوية في الخطاب الحداثي العربي
نسعى هنا إلى التعرف على البوصلة التي ينبغي أن يضعها المثقف العربي وهو يناقش سؤال الهوية، وآليات النهضة، فهل البوصلة يتجه مؤشرها إلى القطر الضيق أم الإقليم الواسع أم المنظومة العربية الرحبة أم الفضاء الإسلامي الشاسع؟ وبالطبع ستكون الإجابة جاهزة، نريد كل هذا، كما ذكر السؤال، ناسين أن السؤال هنا جدلي، يستهدف ترتيب أولويات الانتماء، وتحديد دوائر الهوية، التي ستحدد دوائر المصالح، وتقاطعاتها، ومن ثم تعيد رسم القناعات الفكرية، فلا يتمترس القُطري في حدود دولته، ولا ينفي القوميُ العربي المحيطَ الإسلامي، بل يحتوي العقل المثقف كل هذه الدوائر، وينطلق منها وإليها، دون نفي أو إلغاء.
كما أن النقاش حول الهوية، يستلزم التخلي عن العوار اللغوي، وهو ما نراه في طبيعة الخطاب العربي حيث تكون المصطلحات مختلفة عن مدلولاتها، فمثلاً، عندما يُطرَح مصطلح “الحداثة”، نجد عشرات التعريفات له، تكاد تتناقض فيما بينها، وبالتالي يكون النقاش لا ثمرة منه، فهناك من يوصم الحداثة بأنها كفر بواح لأنها تعتمد التدمير للقناعات والموروثات وإعادة تأسيس قناعات جديدة، وآخر يرى أنها منظومات فكرية منغلقة لأنها لا تعترف بالثقافات الأخرى، وتجعل عقل المفكر الحداثي هو الحكم وأيضًا الخصم والمناقش، وثالث يرى أنها تمثل قمة التطور الفكري وأقصى ما أنتجه العقل البشري (أو بالأدق العقل الغربي) ليتخلص الإنسان من موروثات تمزق الشعوب والعقول. فحينما لا يتم الاتفاق على تعريف ما يكون الحوار بلا منطلقات ولا مرجعيات، وهذا طبيعي في ضوء فوضى الترجمة، وتفاوت الأفهام، وبالتالي لن يكون هناك نقاش منظم، بل جعجعة دون طحين.
حيث يظن كثير من مفكري الأمة- وهم يتناقشون حول هويتها- أنهم يفكرون، ويطرحون جديدًا، ويقدمون أسئلة مقلقة، ولكن الحقيقة أنهم يعيدون ترتيب انحيازاتهم الفكرية، واجترار أفكار الغير. وهذا نجده مبثوثًا في كتابات الكثيرين منهم، من الذين يهاجمون أوضاعاً ثقافية، ولكنهم في الحقيقة أبواق تردد ما يقوله غيرهم أو السابقون عليهم، وهو ترديد غير دال على رغبة في النقاش، بقدر ما هو دال على رغبة في الوجود وبالأدق في الظهور.
فهذا مفكر عربي تم الاحتفاء به في العديد من العواصم، وهو يتباهى – دومًا – بكونه يمتلك واحدة من أكبر المكتبات في العالم، نجده يقدم عدة محاضرات، تطبع في كتيبات يدعي فيها إلى إعادة تشخيص الواقع العربي: الأزمة والهوية، ولكنه في الحقيقة، يرتب ما قاله الآخرون، منحازًا إلى طروحات بعينها، يقدمها مزيجًا، يبدو للوهلة الأولى أنها من بنات أفكاره وفي الحقيقة هو من صنع غيره؛ وتكون المحصلة: أفكارًا مرتبة ظاهريًا، مجترة مكرورة باطنيًا، تنصبّ كلها على الهجوم على الأصولية والتعليم التلقيني، وكسر التابو والمحرم، دون الإشارة إلى عسف السلطة، ودورها في إعاقة الإبداع وتطفيش العلماء والباحثين الجادين، وقمعها للمعارضين السياسيين، ولا عجب فهو أحد أبناء السلطة، وأيضًا من رجالها.
هذا المثقف غير مدان، لأن الكثيرين من السابقين عليه كانوا يرددون أفكارًا رضعوها من الغرب أو الشرق، ولم يكلّفوا أنفسهم البحث عن الشخصية الثقافية العربية وطرح سؤال أين نحن من هذه الأفكار المستوردة؟ وهذا لا يعني عدم دراسة الأفكار والنظريات الأخرى، بقدر ما يعني مناقشتها وتعرف موقفنا الفكري منها، ويكون النقاش نابع من شخصيتنا الثقافية واضحة المعالم، عميقة الجذور، تدرك عمق الأزمة الراهنة، وطبيعة الشعوب العربية، وبنائها النفسي والاجتماعي.
إن النقاش حول الهوية، يستلزم التخلي عن العوار اللغوي، وهو ما نراه في طبيعة الخطاب العربي حيث تكون المصطلحات مختلفة عن مدلولاتها، فمثلاً، عندما يُطرَح مصطلح “الحداثة”، نجد عشرات التعريفات له، تكاد تتناقض فيما بينها، وبالتالي يكون النقاش لا ثمرة منه، فهناك من يوصم الحداثة بأنها كفر بواح لأنها تعتمد التدمير للقناعات والموروثات وإعادة تأسيس قناعات جديدة، وآخر يرى أنها منظومات فكرية منغلقة لأنها لا تعترف بالثقافات الأخرى، وتجعل عقل المفكر الحداثي هو الحكم وأيضًا الخصم والمناقش، وثالث يرى أنها تمثل قمة التطور الفكري وأقصى ما أنتجه العقل البشري (أو بالأدق العقل الغربي) ليتخلص الإنسان من موروثات تمزق الشعوب والعقول. فحينما لا يتم الاتفاق على تعريف ما يكون الحوار بلا منطلقات ولا مرجعيات، وهذا طبيعي في ضوء فوضى الترجمة، وتفاوت الأفهام، وبالتالي لن يكون هناك نقاش منظم، بل جعجعة دون طحين.
ومن مظاهر العوار اللغوي ما نراه في المفردات المستخدمة في خطاب الهوية، فهي ذات طبيعة استعلائية، نخبوية، شديدة التفلسف، رغم أنها موجهة إلى جمهور المثقفين، وعامة القراء، وتطرح عليهم إشكالات تتصل بوجودهم الفكري، ومستقبلهم النهضوي، وهذا يجعلنا نطالب أن يكون نقاش الهوية ذا مستويين، الأول موجه إلى المثقف المتخصص، والثاني – نابع من الأول – موجه إلى جمهور القراء والمتعلمين.
وفيما يتعلق بموقف خطاب الهوية العربية من المستجدات على الساحة الفكرية العالمية، فهو إما يتجاهله ولا يدرجه ضمن مباحثه، وهذا هو الغالب، أو يشير إليه دون أن يوضح موقف الهوية منه. فعلى سبيل المثال: ماذا نقول مع طروحات ما بعد الحداثة؟ وهي تعالج قضايا غاية في الأهمية، أهمها الاعتراف بالثقافات المختلفة، ومزجها ضمن الثقافة العامة للمجتمع. وهل تم تطوير خطاب الهوية العربية، ليناقش خطاب العولمة وقت صعوده منذ ما يزيد على عقدين؟ أم انقسم المفكرون بين رافض ومعارض للعولمة، وثالث توفيقي يحاول المواءمة، من خلال التعامل مع الإيجابي والإغماض عن السلبي.
إن هذا نقاش لا يستهدف التشكيك فيما تم إنجازه على صعيد خطاب الهوية الثقافية العربية، بقدر ما يحاول تشخيص بعض مظاهر الأزمة، وإشكالاتها في الواقع المعيش، ومن ثم جاء طرح الأسئلة معبرًا عن أبعاد هذه الأزمة، وأيضًا طامحًا إلى رؤية جديدة لقضايا الهوية، ومستشرفًا الغد في ضوء حاضر يتفق الجميع على أنه يحتاج إلى مراجعة جادة.